لم تكن هناك أى قوى سياسية فى نهايات عام 2010 ومطلع عام 2011 مهيأة أو مستعدة للحكم وإدارة البلاد سواء عبر انتخابات ديمقراطية إذا نجحت أى جهود باتجاه الإصلاح السياسى، أو عبر ثورة كانت الغالبية العظمى لا تتوقعها، وحتى الحالمين بها كانوا محبطين من إمكانية حدوثها.. التهيؤ والاستعداد هنا قد لا يكون فكريًّا فقط، وهو كان قائمًا فى جانب منه بالتأكيد، ولكن أيضًا شعبيًّا وتنظيميًّا وإقليميًّا وغيره.. وباستثناء جماعة الإخوان فى هذا الوقت، التى بحكم تنظيمها وخبرتها وتجذرها وتدفقاتها النقدية وكذا امتدادها الإقليمى والدولى، فلم يكن هناك أى طرف آخر قادر أو متصور قدرته على الوصول إلى الحكم فى حال حدوث أى تغيير سياسى لنظام مبارك وقتها.. ومع ذلك فقد كانت هناك بدائل مطروحة سياسيًّا وإعلاميًّا وشعبيًّا، سواء أسماء لشخصيات عامة أو معارضة، أو برامج سياسية مقدمة، أو حتى تجارب جرت المحاولة من خلالها رغم الاختلاف معها. صحيح أن مسألة وجود بدائل مطروحة وقتها ولو نظريًّا، ولم يسبق اختبارها بجدية كافية للحكم عليها، كانت واحدة من العوامل التى تبعث الأمل لدى قطاعات من المصريين عند التفكير فى مسألة تغيير النظام، لكن فى اللحظة الحاسمة، عندما تدافعت الجماهير إلى ميادين الثورة فى كل أنحاء مصر، بدءًا من 25 يناير ومرورًا ب28 يناير وحتى 11 فبراير، لم يكن ذلك هو العامل الحاسم فى اتخاذ القرار بالمشاركة فى الثورة من عدمها، كان العامل الأهم والأكثر حسمًا هو اليقين بفشل النظام القائم، وانتشار الفقر، وتفشى الظلم، واحتكار السلطة والثروة، وشيوع الفساد، وعدم وجود أى منافذ يمكن الرهان عليها فى الإصلاح التدريجى.. تكرر الأمر بصورة أخرى بها بعض الاختلافات فى يونيو 2013، فبعد أن صار هناك يقين شعبى بأن استمرار حكم الإخوان سيؤدى بالبلاد إلى كارثة، وصار واضحًا أن هؤلاء لا يمكن ائتمانهم على حكم مصر رغم أن أغلبية المصريين هى من اختارتهم للحكم قبل شهور قليلة، وكثير منهم كان إما مخدوعًا بشعارات دينية أو مدفوعًا لعدم وجود بديل يثق فى قدرته أو مضطرًّا إلى مواجهة هزيمة الثورة مبكرًا على يد مرشح النظام السابق أو بقاء المجلس العسكرى فى إدارة شؤون البلاد، لكن أغلب هؤلاء مع غيرهم، لم يستطيعوا صبرًا على حكم الإخوان بعد سنة واحدة من وصولهم إليه، ومرة أخرى لم يكن البديل متبلورًا بوضوح، أيضًا رغم وجود اجتهادات قد تكون أكثر نضجًا فى وقتها عما قبل يناير، لكنها أيضًا لم تكن كافية للمصريين، فاتجهوا هذه المرة لاستدعاء الدولة ممثلة فى مؤسستها العسكرية، باعتبارها الضامن والحامى والعمود الفقرى القادر على الحفاظ على ظهر الدولة صلبًا، فضلاً عن اعتبارات أخرى متعددة لها علاقة بالانقسامات السياسية التى جرت على الساحة منذ 2011 وحتى يونيو 2013، واحتمالات تصاعد العنف بعد إزاحة الإخوان عن الحكم وغيرها.. لكن مجددًا، ورغم غياب البديل السياسى الحاضر والمستعد للحكم وإدارة الدولة بعد الإخوان، لم يتردد المصريون فى الخروج ضدهم وضد سياساتهم. االخلاصة هنا هى أنه ومع التفاوت فى الأوضاع والظروف، ظل (البديل) بمعناه الواضح والشامل والمتجدد الذى يمكن أن يجمع ثقة المصريين ويوحد القطاعات الفاعلة منهم، غائبًا فى لحظات تاريخية كبرى ورئيسية فى السنوات الأخيرة، ولم يمنع ذلك المصريين من الثورة، التى تراكمت عواملها وتزايدت بالتدريج، فانفجرت فى وجه المسؤولين عنها أو حتى عن استمرارها.. هذه المرة تمثل معضلة غياب البديل المتبلور مسألة أكثر وضوحًا، وأكثر تأثيرًا، لكنها أيضًا لن تكون الحاسمة فى مسار البلاد.. لكن بالإضافة إلى ذلك، وهو الأهم، فهناك تشويه للوعى العام يجرى منذ سنوات طويلة وتكثف وتجسد فى إطارات أكثر تحديدًا فى العامين الأخيرين، وصار الخوف حاضرًا فى نفوس المصريين أكثر من أى وقت سابق على الأقل منذ 2011، والتحذيرات المستمرة من مصائر بلاد مجاورة قائم وبقوة أيضًا وله منطقه وقبوله لدى قطاعات واسعة من المصريين.. ثم الأهم مع كل ذلك أن المصريين جربوا بالفعل ثورتين فى أقل من ثلاثة أعوام، ولم تسفر كلتاهما عن نقلة فارقة فى حياتهم وأوضاعهم، وهى بالتأكيد حسب فهمنا ليست مسؤولية الثورات ومن قاموا بها وإنما مسؤولية من أداروا شؤونها بعد ذلك فى كل المراحل السابقة، وأيضًا يتشارك فى هذه المسؤولية مع تفاوت الدرجات من غابوا عن التصدى لمهامهم بتشكيل بدائل تنتمى للثورة حقًّا، وتقدر على إقناع المصريين وتجسيد أحلامهم فى تصورات ورؤى وأفكار والأهم بنى تنظيمية تحقق ذلك وتقدم نماذج له.. ثم هناك مع ذلك كله أيضًا أن السلطة الحالية جاءت لتجسد بوضوح طريقة حكم المؤسسة العسكرية، وبغض النظر عن الخلاف الجدلى والنظرى من جانب قطاعات واسعة عن كون الحكم الحالى مدنيًّا أم عسكريًّا فى مضمونه بغض النظر عن شكله، وهل الرئيس السيسى ترشح تعبيرًا عن المؤسسة أم باعتباره مطلبًا شعبيًّا؟ لكننا فى كل الأحوال وبمنتهى الوضوح أمام طريقة تفكير عسكرية، وهو أمر يتسق تمامًا مع طبيعة تكوين وتركيبة من يحكم البلاد، ثم إننا أمام تعويل ورهان فى غالبية ما يتم من مشروعات وملفات على جهود المؤسسة العسكرية، هذا فضلاً عن تفاصيل أخرى متعددة عن أدوار أخرى ربما ليس مناسبًا الآن الحديث عنها، لكننا فى النهاية أمام تجربة واضحة من حيث مضمونها تقول إن المصريين عندما اختاروا السيسى رئيسًا، وعندما طالبوا به للترشح، بل وعندما استدعوا القوات المسلحة بالأساس للتدخل والانحياز لهم فى مطلب إزاحة الإخوان عن الحكم، كانوا بدرجة أو بأخرى يراهنون على أن هذه هى المؤسسة القادرة على إدارة الدولة فى المرحلة الراهنة وبكل تحدياتها.. فإذا فشل هذا الرهان هذه المرة، فلن يكون مطروحًا تجديده مرة أخرى فى حالة اتخاذ المصريين قرارًا آخر بالخروج احتجاجًا على السياسات الراهنة ونتائجها. من هنا تصبح معضلة غياب البديل أكبر وأعمق، لأن استمرار الأوضاع الراهنة وزيادة تأزمها، عبر فشل إيجاد حلول جادة ومستمرة وليست مسكنات مؤقتة للأزمات الاقتصادية، والانسداد السياسى القائم فى المجتمع والتغييب العمدى للحوار والشراكة فى الرأى وتقبل النقد، وتفشى المظالم المستمر دون وقفة جذرية معه، فضلاً عن استمرار حالة الارتباك وغياب الأمل فى تحسن قريب لدى قطاعات تتسع من المصريين، رغم كل محاولاتهم للتمسك بالرهان على ما هو قادم، أضف إلى كل ذلك غياب العقل السياسى أو حتى المنطق الطبيعى فى أبسط الأمور عن الطريقة التى تدار بها البلاد، وفتح جبهات صراع متعددة ومتزامنة مع أطراف عديدة فى المجتمع، حتى وإن كانت لم تصل إلى مرحلة الصدام أو لم تظهر بوضوح للعلن، بالإضافة لصراع قائم بالفعل من وراء الستار بين أطراف وأجنحة وأجهزة متعددة، ثم ومع هذا كله استمرار السياسات الأمنية، بل ومجمل السياسات القديمة فى جوهرها حتى لو تحسن شكل بعضها، بل والمجاهرة بتصورات اقتصادية واجتماعية لا تختلف كثيرًا فى مضمونها عما كان يمهد له ويطرحه الحرس الجديد المروج لتوريث جمال مبارك فى الحزب الوطنى قبل ثورة يناير... هذا كله وغيره مما يمكن أن نعدده سيدفع المصريين دفعًا، حتى ولو دون رغبتهم أو سعيهم، وحتى لو دون تحريض من داخل أو تآمر من خارج، إلى للوصول فى لحظة ما إلى غضب واحتقان ويأس وانسداد كل سبل العيش والأمل والإصلاح، وعندها لن يتوقف المصريون كثيرًا عند وجود بديل أم عدمه، لأن الغضب هذه المرة قد يكون أعمى، وبالذات مع استمرار إماتة السياسة وتشويه أى بدائل قد تلوح فى الأفق. الخلاصة هنا أنه رغم كل ما جرى ويجرى، بل وربما بسببه، لم يصبح خيار الثورة مرة أخرى منفيًّا تمامًا خارج السياق، رغم كل مراراته والتخوفات منه.. ولأن الثورة ليست قرارًا من جهة أو طرف، وإنما هى إرادة شعبية تتبلور فى لحظة ما عندما لا تجد سبلاً أخرى.. لكن الأزمة الحقيقية هى أن من قد يتصورون أن الثورة قد تمثل حلاًّ ويأملونها قريبة، عليهم أن يتمهلوا كثيرًا قبل أن يسلموا بهذه القناعة، لا خوفًا من مصير سوريا والعراق وغيرهما، لأن الحقيقة مصر بحكم عوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية ونفسية عديدة قد تكون أبعد ما يمكن عن مثل هذا النموذج وما يشابهه، ولكن لأن الثورة فى ذاتها، وبالذات هذه المرة، لن تكون فى حد ذاتها حلاًّ، خصوصًا بعد التجربتين السابقتين.. والجانب الآخر من نفس الأزمة هو أن من يخشون الثورة أو من يتصورون أنها لم تعد مطروحة فى أى زمنى قريب، يدفعون دفعًا باتجاهها بالسياسات والممارسات والأساليب الراهنة، التى تمثل فى ذاتها أقرب طريق لمصائر يحذرون منها. بالتأكيد، وبكل جدية، هذه ليست دعوة إلى ثورة أخرى، وربما حتى ليست توقعًا قريبًا لها، رغم أن ما يجرى لا يختلف كثيرًا فى جوهره ومضمونه عما استحق الثورة ضده من قبل، ولكنها دعوة للتنبه والتعقل ووقف مسار الجنون الحالى قبل أن يصل بنا إلى نتائج قد تكون محتومة، ربما يكون ما نطرحه منها أقلها وأبسطها، وهى دعوة ليتصدى كل طرف فى هذا البلد لمسؤولياته، قبل أن نصل إلى لحظة آثارها على الوطن كله ستكون صعبة، أو على الأقل نكون أكثر استعدادًا لها.