لعلها هي أكثر دولة عانت من حكم الطغاة في التاريخ كله، وصفها العالم العبقري جمال حمدان بأنها "أم الديكتاتوريات"، ووصفها الفرنسيون في كتابهم وصف مصر على نحو مشابه أيضًا في باب شخصية المصري، يميل المصري باستمرار إلى الاغترار بسلطته مهما صغرت ليستعملها في قهر الآخرين إذا ما شاءت الأقدار أن يرتدي زيًّا رسميًّا ما، مهما كان على أم رؤوس خلق الله من تعساء الحظ. وكثيرًا ما حفلت كتب التاريخ التي تتحدث عن كيف كان ضابط الشرطة المصري يتسم بالقسوة الشديدة في عهد الفراعنة والحكام الآلهة، ولا يزال هذا الوصف يعكس حتى يومنا هذا السمعة الغالبة التي يتمتع بها ضابط الشرطة المصري المرعب في العالم كله. يكفيك أن تتأمل في حضرة العمدة في الفيلم المصري العبقري "الزوجة الثانية"، الممثل العبقري صلاح منصور حضرة العمدة صاحب السلطة الذي يجبر الفلاح البسيط شكري سرحان على تطليق زوجته سعاد حسني، ليتزوجها هو دون حتى انتظار انقضاء فترة العدة، فقط لأنه يريد أن ينجب الولد الذي سيرث سلطانه وفدادينه من بعده! وبالطبع يصاحب حضرة العمدة عرَّاب شرعي من مشايخ رجال الدين الجاهزين بالفتوى الشرعية المتينة التي تحلل لصاحب السلطان كل بلاويه، فيقول بصوت يملؤه الورع المصطنع "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، ثم، مشيرًا لحضرة العمدة بابتسامة حقيرة "وأولي الأمر منكم"!!! ولأن التعليم الحقيقي هو العدو الأول لأي طاغية فيبقى الجهل هو خبز الغلابة، والنفاق والولاء الأعمى هو خبز رجال الطاغية، والرضا السامي من أجل المصالح الشخصية هو حلم من هم كل ما بين ذلكم وهؤلاء من فئة كارهي الثورات الذين يلعنون أصحابها ليل نهار، وخبراء التنظير الذين يجلسون في أمان منازلهم وكأنهم الخبراء العارفون بكل شيء ليقولوا بسطحية مذهلة أن الديكتاتورية والطغيان هما الدواء، لأن هذا شعب علاجه هو الإبادة الجماعية ولا يسير إلا بالكرباج! اقرأ كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي (الذي اغتيل في مصر) لتعرف نفسك وتحدد موقعك بين هؤلاء أو غيرهم. ليتحول حال العامة إلى ما يسمى بالانسحاق الاختياري العام أمام جبروت الطاغية، ليصل الوله به والغرام بحكمته الاستثنائية بل وجماله محاسنه إلى حد الشرك بالله، ناهيك بالإمامة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وفي المسجد الأقصى كمان، وماله!! أو الانسحاق التام أمام الزي الرسمي للسلطة، ولا فرق، الاتنين واحد! لتتحول الأرواح التي خلقها الله في الأصل حرة أبية إلى أرواح عبيد أصابها العطب بغير رجعة وشوهتها لعبة المصالح، ليصبحوا شحاتين على أبواب مولانا بالتخصص مهما بلغ مستوى تعليمهم وحجم ثرواتهم، وليكون دفاعهم عن الطاغية هو عين الوطنية والاستشهاد من أجل مصر وفي حب مصر اللي نفديها بأرواحنا طبعًا ونغني لحكامها أروع الأغاني الوطنية!! فإذا وجدت أرواح العبيد هذه حريتها بالمصادفة ارتبكت وأصابتها اللخبطة، وحارت في أمرها وشعرت باليتم الذي لا تنتهي أزمته إلا بالعثور على سيد جديد هو الأمل والمنقذ الأوحد لتتمسك به كما يتمسك الغريق بالقشة، فيحررون له توكيلاً رسميًّا عامًّا بمصائرنا التي كان يجب علينا في الأصل أن نصنعها نحن لأنفسنا، كيفما نريد نحن وليس كما يريد الحاكم.. هو إذن ذلك الطاغية الذي استباح مصر لنفسه وأسرته فجثم على صدرها لثلاثين عامًا متصلة، والكل يسجد له ولأولاده ولزوجته إلى حد وصفها بصاحبة الجلالة وتقبيل يدها علنًا بمعرفة إحدى الوزيرات شديدات الإخلاص! ناهيك بذلك الثوري الأوحد بتاع اليومين دول الذي استعذب فيما مضى تقبيل يد وزيره -وزير الإعلام إياه- المسؤول بالتخصص عن الترفيه عن الأب الرئيس!! رئيس الطوارئ والاعتقال الإداري، الذي تغذى ولظلظ وعاش على خوف البعض منه، وحرص البعض على مصالحهم معه، وانسحاق البعض أمام سلطانه المطلق وطغيانه الذي لم يصنعه لنفسه بقدر ما صنعه له غيره من الذين يستمتعون بلحس أطراف أحذيته في كل صباح وعلى صفات الجرائد وشاشات التليفزيون بكل همة ونشاط ومتعة وانبساط.. ذلك السواد الداكن الذي كاد أن يكون حالكًا لولا تلك الفئة الشابة التي خرجت ذات صباح في يناير لتهتف باسم مصر من دون أسيادها ومغتصبيها، شباب صغير منفتح على العالم يحمل حلمه في صدره، وروحه على يده الطاهرة كأنها الكفن. ليقفوا كالرجال ويموتوا كالرجال أمام أصحاب السلطة والزي الرسمي من كل شكل ولون ونوع دون استثناء، يتلقون رصاصات الكراهية والغل وكسر الرخام من كل اتجاه على يد هؤلاء الذين تعلموا أن يظنوا في أنفسهم أنهم هم السادة وما دونهم ليسوا إلا العبيد الطائعين المارقين، يدهسون بالمدرعات ويقفون بشجاعة نادرة أمام مدافع الماء والنار والغاز من أجل كرامة وحرية وشرف، لترتفع أرواحهم الطاهرة إلى السماء من الميدان، ومن شارع محمد محمود، ومن ماسبيرو، ومن شارع مجلس الوزراء، ومن كل مكان على أرض مصر. أرواح لم تذهب هباء أبدًا حتى لو أحاط الغربان وطيور الظلام بها من كل جانب يحاولون سرقة ثورتها أونسبتها لأنفسهم وركوبها من دون أصحابها. أرواح لا تنتظر عرفانًا من أحد لثورة لا تحتاج إلى اعتراف من أحد. أرواح حرة وإن ذهب أصحابها وراء القضبان. أرواح تعلمنا ألا نسلم ذقوننا لحاكم مجانًا وعلى نحو مطلق ودون قيد أو شرط، وألا نمنحه ثقة مطلقة إلا بقدر أفعاله. أرواح تعلمنا أننا يجب الآن وليس غدًا أن نكف عن تلك العادة القبيحة بأن نتفنن في صنع طغاتنا بأنفسنا لأنفسنا ولو على حساب أولادنا ووطننا الذي هو مصر. واليوم وفي عز النهار هأنذا أهتف بأعلى صوتي مهنئًا سجناء قانون التظاهر الجائر في عيدهم دون لحظة تردد أو ذرة خوف، وهم الأحق بالتنهئة من غيرهم، لعل صوتي يصل إليهم حيث هم في الزنازين المظلمة: شكرًا لكم، عاشت ثورة 25 يناير، والمجد كل المجد لشهدائها الأبرار.