رئيس جامعة كفر الشيخ يشارك فى اجتماع مجلس الجامعات الأهلية    أمانة الإعلام بحزب الجبهة الوطنية: حرية تداول المعلومات حق المواطن    رئيس الوزراء يشهد احتفالية شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير بمرور 120 عاما على تأسيسها    إيران: لن نسمح بتخريب علاقاتنا مع جيراننا وخاصة السعودية    الفاتيكان يعرض استضافة محادثات سلام بين أوكرانيا وروسيا    محمد بن زايد ونواف سلام يبحثان العلاقات الثنائية وتطورات إقليمية    استعدادا لمونديال الأندية.. الأهلي يستعرض ترتيبات معسكر أمريكا    أمل إنتر الأخير.. عثرات على طريق نهائي ميونخ    زينة بعد تعرض ابنها لهجوم من كلب شرس في الشيخ زايد: لن أتنازل عن حقي وحق أولادي ولن أقبل بالصلح مهما كانت الضغوط    شاب ينهي حياته بعد مروره بأزمة نفسية بالفيوم    تنطلق غدا من الإسماعيلية.. قصور الثقافة تقدم 10 عروض مسرحية ضمن مشروع المسرح التوعوي    زاهي حواس: أفحمت جو روجان ودافعت عن الحضارة المصرية بكل قوة    «متى تبدأ؟».. امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الاعدادية 2025 بالمنيا (جدول)    «حيازة مخدرات».. المشدد 6 سنوات ل عامل وابنه في المنيا    المؤتمر: لقاء الرئيس السيسي برجال الأعمال الأمريكيين خطوة مهمة لجذب الاستثمارات    أسهم شركات "الصلب" و"الأدوية" تتصدر مكاسب البورصة المصرية وتراجع قطاع الاستثمار    زينة "مش هتنازل عن حقي وحق ولادي وأحنا في دولة قانون"    رئيس اتحاد النحالين يكشف حقيقة فيديو العسل المغشوش: غير دقيق ويضرب الصناعة الوطنية    صحة المنوفية تواصل جولاتها الميدانية لتطوير المستشفيات وتحسين الخدمة المقدمة للمواطنين    31 بالقاهرة.. الأرصاد تكشف التوقعات التفصيلية لطقس الأربعاء    القوات المسلحة تنعى اللواء محمد علي مصيلحي وزير التموين الأسبق    "المشاركة في أفريقيا".. أول تعليق لمحمد عزت مدرب سيدات الزمالك الجديد    بيان عاجل بشأن العامل صاحب فيديو التعنيف من مسؤول عمل سعودي    ب"فستان جريء"..هدى الإتربي تنشر صورًا جديدة من مشاركتها في مهرجان كان    لا أستطيع صيام يوم عرفة فهل عليّ إثم؟.. أمين الفتوى يحسم    ملك بريطانيا يرد على تهديدات ترامب أمام البرلمان الكندي    دير الأنبا بيشوى بوادي النطرون يستقبل زوار الأماكن المقدسة (صور)    السعودية تعلن غدًا أول أيام شهر ذي الحجة.. وعيد الأضحى الجمعة 6 يونيو    تكريم الصحفية حنان الصاوي في مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي    بعد دخوله غرفة العمليات..تامر عاشور يعتذر عن حفلاته خلال الفترة المقبلة    المفوضية الأوروبية: ملتزمون بتنفيذ حل الدولتين ونطالب برفع الحصار    وزير العمل يُسلم شهادات دولية للخريجين من مسؤولي التشغيل بالمديريات بالصعيد    «الإفتاء» تكشف عن آخر موعد لقص الشعر والأظافر ل«المُضحي»    «تنظيم الاتصالات» يصدر تقرير نتائج قياسات جودة خدمة شبكات المحمول    نائب رئيس جامعة بنها تتفقد امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية التربية الرياضية    وكيل صحة البحيرة يتفقد العمل بوحدة صحة الأسرة بالجرادات بأبو حمص    ذكرى ميلاد فاتن حمامة فى كاريكاتير اليوم السابع    "ملكة جمال الكون" تضع تامر حسني والشامي في قوائم المحتوى الأكثر رواجا    ميار شريف تخسر منافسات الزوجي وتودع رولان جاروس من الدور الأول    غياب ثلاثي الأهلي وبيراميدز.. قائمة منتخب المغرب لفترة التوقف الدولي المقبلة    "دون رجيم".. 3 مشروبات فريش تساعد في إنقاص الوزن دون مجهود    6 أدعية مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. أيام لا تُعوض    لو عندى مرض أو مشكلة أصارح خطيبي؟.. أمين الفتوى يُجيب    رئيس مجلس النواب مهنئا بعيد الأضحى: ندعو أن يتحقق ما يصبو إليه شعب مصر    حماس تهاجم قناة «العربية».. وتطالبها باعتذار رسمي (تفاصيل)    «بأمارة أيه؟».. شوبير ينتقد ترشيح موكوينا لتدريب الزمالك    محافظ دمياط يفتتح وحدتي السكتة الدماغية والرعاية المركزة بمستشفى كفر سعد    مصدر أمني ينفي تعدي قوة أمنية على شخص بالإسكندرية مما أدى إلى وفاته    مؤتمر الأعمال العُماني الشرق أفريقي يبحث الفرص الاستثمارية في 7 قطاعات واعدة    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو مشاجرة بورسعيد    أمجد الشوا: الوضع فى غزة كارثى والمستشفيات عاجزة عن الاستجابة للاحتياجات    الإدارة العامة للمرور تبدأ تجربة «الرادار الروبوت» المتحرك لضبط المخالفات على الطرق السريعة    خلال 24 ساعة.. ضبط 146 متهمًا بحوزتهم 168 قطعة سلاح ناري    تؤكد قوة الاقتصاد الوطني، تفاصيل تقرير برلماني عن العلاوة الدورية    اليوم| إقامة ثاني مباريات نهائي دوري السوبر لكرة السلة بين الاتحاد والأهلي    الزمالك يتفق مع مدرب دجلة السابق على تدريب الكرة النسائية    معركة الدفاع الجوي في زمن التحولات الجيوسياسية.. أوكرانيا تطلب تزويدها بمنظومة «باتريوت» لمواجهة الدب الروسي    في إطار التعاون الثنائي وتعزيز الأمن الصحي الإقليمي.. «الصحة»: اختتام أعمال قافلتين طبيتين بجيبوتي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهاية الطغاة
نشر في التغيير يوم 14 - 01 - 2012

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص:4-6).
يقال: «استبد بالأمر يستبد به استبدادًا» إذا تفرد به دون غيره ويقال: «استبد بأمر فلان» إذا غلبه على أمره فلم يقدر المغلوب على ضبط من استبد به أو إيقافه عند حده، و«التبديد» هو التفريق فكأنَّ المستبد يفرّق أولا بينه وبين الآخرين فيجعل من نفسه أعلى منهم ويفرَّقهم ليتمكّن من البقاء في موقع علوه واستعلائه وليظلوا في مواقع الخضوع له مفرَّقين مبدَّدين.
وملاحظة من قص الحق –تبارك وتعالى- علينا أخبارهم من المستبدين توضح لنا «طبائع الاستبداد» فحين استبد فرعون بقومه استعلى عليهم وجعل أعزة القوم أذلتهم وجعلهم شيعًا وفرقًا لكنّهم جميعًا يدورون حوله وقد بلغ به استبداده واستعلاؤه أن رفض مبدأ وجود إله بكل قوة وبكل ما أوتي من قوة وبكل ما أوتي من طاقة فأعلن في قومه {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}(القصص:38). وحين تجرّأ منهم من تجرّأ وقال له: بأن هناك آلهة أو أرباب آخرين قال في منتهى الاستهتار: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(النازعات:24) وذلك يعني في زعمه ودعواه أنّ الأصل أنّه لا رب للناس غيره. ولو فرض أنّ لهم ربًا سواه فهو يدعي أنّه ربهم الأعلى فكل أولئك الذين لو فرض وجودهم فهم دونه.
وحين نراجع نموذجًا آخر من نماذج المستبدين نجد ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه مغرورا مخدوعا بما أوتيه من ملك قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(البقرة:258) إنّ الاستبداد يجعل المستبد مليئًا بالغرور والإحساس بالفوقيَّة والاستعلاء والشعور بالقدرة والاستنكاف من احترام آراء الآخرين أو نصائحهم فيستقل برأيه ويستبد بأمته ويستعلي عليها ويورثها الشقاء ويلغي حقوقها وينال من قيمها والمستبد حين يعايش الاستبداد فترة من الزمن يتحوّل إلى إنسان مصادر لكل حقوق الآخرين لا يفكر بعاقبة ولا يخشى تبعة وقد شعر في قرارة نفسه بأنَّه فوق البشر يقول أحدهم:
وإنّي لمن قوم كأن نفوسهم *** بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظم
ويقول آخر:
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ *** تخر له الجبابر ساجدينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا *** ويشرب غيرنا كدرا وطينا
هذا الإحساس بالنسبة للمستبد ولمن حوله يعد إحساسا عاديا يستعلي به ويستكبر عن النصيحة؛ حتى بلغ بأحد المستبدين أن أعلن في الناس قولة فاجرة: «من قال لي: اتق الله قطعت عنقه» ويقول مستبد آخر في خطابه العام: «إنّي لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها وإنّي لصاحبها» ويقول مستبد آخر في نهاية خطبته لعيد الأضحى: «قوموا إلى أضاحيكم أمّا أنا فإنّي مضحٍّ بالجعد بن درهم» ويقول آخر من منافقي المستبدين للمستبد الحاكم بأمر الله الفاطمي:
لك ما شِئْتَ لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
ويقول شاعر آخر لمستبد معاصر سقط قبل سنوات قلائل:
تبارك وجهك القدسيّ فينا *** كوجه الله ينضح بالجلال
هنا يصبح المستبد متألّهًا يمكن أن يدعي الألوهيّة ويمكن أن يدعي علم الغيب ويمكن أن يدعي بأنّه من يرزق شعبه. وقد تسوّل له نفسه أنّ حياة شعبه لا قيمة لها إذ لم يكن المستبدّ على رأسه. وأنّ الفراغ الذي يتركه الزعيم الضرورة لن يملأ وأنّه وأنّه.
ولقد حكى لي وزير أحد المستبدين أنّ رئيسه المستبد سأله ذات يوم: في لفحة تدُّين أصابته أتجب علي الزكاة فقال له: «نعم يا سيادة الرئيس إذا بلغ مالك النصاب، فهز الرئيس رأسه وقال: ألا يكفي أو يغني عن الزكاة أنّي أطعم جميع الملايين من أبناء الشعب؟» فهذا الدكتاتور المستبد والذي كان معدمًا قبل التسلّط والاستبداد بالسلطة لا يكاد يملك قوت يومه صار ينظر إلى شعبه أنّهم مجموعة من الأفواه الآكلة التي يطعمها هو دون أي إحساس أو شعور بأنّه إنّما يسرق ثروات هؤلاء ويستبد بهم ويلقي إليه الفتات.
والاستبداد استعباد؛ يقول سيدنا موسى لفرعون وهو يعدد ما اعتبره مكارم له عليه في قوله: ]قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ[(الشعراء:18) أجابه موسى بقوله:]وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ[(الشعراء:22)أي: استعبدت قومي وتبنَّيتني.
والمستبد لا يرضيه أن تخرج أيّة سلطة من السلطات عن قبضته فهو الحاكم الفرد وهو القائد الأعلى وهو المسئول عن المؤسسات –كافّة- ينشؤها ويلغيها.
والمستبد إنسان ضعيف يحمل مجموعة من الأمراض النفسية تكمن وراء طغيانه واستبداده وتكون تصرفاته الطاغية المستبدة ستارا لأمراضه ومكونات ضعفه التي يحاول تغطيتها بذلك الاستبداد وما فيه من تظاهر بالقدرة المطلقة والاستعلاء التام والانفصال عن طبقة المستضعفين الذين يحكمهم. ومن الصعب على هؤلاء حتى حين تفاجؤهم أعراض بشريّة كالمرض ونحوه أن يشعروا بأنّهم بشر ممن خلق الله يعتيريهم ما يعتري البشر من ضعف فلا يسلمون بحقيقة بشريّتهم ولا يرون أنّ أمتهم يمكن أن تعيش بدونهم.
ولقد ابتكر سدنة الاستبداد المعاصرون خاصة مصطلحات تعزز نزعة الاستبداد وتدعمها من هذه المصطلحات «الفراغ السياسي» «خوف الفوضى» «اختفى زعيم اللحظة» «التاريخيّة» أو «زعيم الضرورة» وغير ذلك، ولقد عشت في العراق زمنا كان الناس يتصورون فيه أنه بمجرد موت نوري السعيد أو سقوطه فإن العراق سوف يعيش في فراغ يؤدي به إلى التحطم والتفكك. ومات نوري السعيد وجاء مستبدون آخرون وملأوا الفراغ بشكل استبدادي وجاوزوا استبداد السعيد وقيل عن عبد الكريم قاسم: لو حدث له شيء فسينتهي العراق لضخامة الفراغ الذي سيتركه وقتل عبد الكريم وربط جسده في قضيب من قضبان السكة الحديد وألقي بليل في نهر دجلة طعاما لسمكها ولم يحدث فراغ، وجاء مستبدون آخرون وملأوا الفراغ بشكل أو بآخر!! وهكذا دوليك.
وأسطورة الفراغ الذي يتركه المستبد كانت حاضرة في ذهن فرعون حين نادى في قومه ]مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي[(القصص:38) وحواشي المستبدين أشد خطورةعلى ضحايا الاستبداد من المستبدين أنفسهم فهم يتلونون تلون الحرباء ويخذّلون الناس عن مقاومة الاستبداد مرة بنسبة المستبد إلى العبقريّة والتفوق الذي يجعله فوق البشر، ومرة بالحط من أقدار الشعوب وإشعارها بأنّها ضعيفة ذليلة عاجزة لن تكون قادرة لو زال المستبد على تدبير أمورها أو تنظيم شئونها.
ولقد عاصرت بعض المستبدين، ومنهم عبد الكريم قاسم الذي حكم العراق بمفرده على سبيل الحقيقة أربع سنوات ونصف، فوصفه الانتهازيُّون والنفعيُّون من حاشيته بكل أوصاف التعظيم التي عرفتها البشريَّة. ولم يتركوا مناسبة من المناسبات إلا وظفوها لإبراز عبقريَّته وتفوقه فحين يحتفل المعلمون بيوم المعلم ينبري من أولئك المطبّلين من يهتف: «عاش المعلم الأول عبد الكريم قاسم» غافلا أو متغافلا عن أنَّ فلاسفة اليونان قد منحوا لقب المعلم الأول قبل العديد من القرون لأرسطو.
فإذا احتفل الأطباء فسيادة الزعيم ينبغي أن يكون الطبيب الأول. أمّا إذا احتفل العسكريّون فذلك أمر لا نزاع فيه أنّه العسكريّ الأول الذي لو تتلمذ عليه «مونتجومري أو رومل» لعجز عن مجاراته في علومه العسكريّة ولانحنى أمام عبقريّته!! ولقد سمعت مرة قادة قوميّين سياسيّين مدنيّين من قيادات العمل السياسيّ والأحزاب –آنذاك- في العراق وقد استوزرهما عبد الكيرم قاسم يقولان له وقد وجه إليهما سؤالا: حول مدى دستورية قرار كان يريد أن يتخذه فأجاباه معا يا سيادة الزعيم: إنّ كلامك دستور فامض إلى ما تريد ولا تلتفت إلى شيء أبدا.
وصدّق المسكين هذه الحاشية الخبيثة الانتهازيّة فقال في خطبة من خطبه الشهيرة: «إنني قوة منطلقة في التاريخ يستمد الشعب العراقيّ القوة مني في حياتي وبعد مماتي يستمدها من خطبي وكلماتي وبيان الثورة الأول!!» وكيف لا يقول الحاكم المطلق هذا وحاشيته تطلق عليه من الألقاب ما لا يكفي لكتابته ثلاثة أسطر فهو الزعيم الأوحد والأوحد والأوحد والملهم والديمقراطيّ والمسلم الذي يقطر تديّنًا، بل ابتكر بعضهم له صفة يعرفها إخواننا المتصوفة وهي صفة «الكشف وقطع المسافات الطويلة بخطوة واحدة» وأشاعوها بين الناس؟! لم يكن الرجل يصلي –فيما نعلم- لكن الإعلام والحاشية المتملقة أقنعت السنّة منهم بأن الزعيم لا نراه يصلي لأنه لا يريد أن يراه أحد وهو يفعل فيحسبه على السنة إذا وضع يديه على بعضهما أو من الشيعة إذا أرسلهما فيذهب إلى الصلاة في الكعبة بخطوة واحدة ويعود ويتوضأ من زمزم!! أما إخواننا الشيعة فقد يسيطر الحماس على بعضهم فيقول: شاهدناه في حضرة الحسين في كربلاء يصلي العصر أو الظهر أو يجمع بينهما وبعضهم يذهب به إلى النجف ليصلي المغرب وهكذا والرجل كان يرى الصلاة مجرد نظافة قلب ونقاء وجدان فقط لا غير!!
إن المستبد تخدعه قوته وسطوته وحاشيته وتغشّي على بصره وقلبه فلا يستطيع أن يرى أنَّه مجرد بشر ممن خلق الله أوله نطفة مذرة وآخرة جيفة قذرة تنتهي إلى حفرة تضم رفاته إلى أن يأذن الله ببعثه. لقد خدع الاستبداد الفراعنة وأوجد في نفوسهم رفضا للدفن في باطن الأرض فجعلوا قبورهم عليها وفوقها لا في باطنها فهل أغنى ذلك عنهم شيئا؟! كما ابتكروا التحنيط وبنوا الأهرام واخترعوا مراكب الشمس فما أغنى ذلك عنهم شيئا حين أخذ الله بعضهم وجنودهم ونبذهم في اليم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}(القصص:41-42)، وتلك هي عاقبة الاستبداد فهل أغنى عن فرعون قوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}(القصص:38) أو قوله:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(النازعات:24) لم تغن هذه الدعاوى عنهم شيئا ولم يستطيعوا أن يغنوا عن جماهيرهم الغافلة المذعنة المنقادة الخانعة المستسلمة التي تحمل جزءً كبيرا من مسئولية انخداع الطغاة واستبدادهم فما يخدع الطغاة شيء مثل ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها ومديحها وهتافها وثناؤها.
فما الطاغية في الحقيقة إلا فرد لا يملك قوة ولا سلطانًا إنّما هي الجماهير الغافلة الذلول التي أحنت له ظهورها فركب ومدت بين يديه أعناقها فجر وسحب وأحنت له رؤوسها فاستعلى وتنازلت عن حقوقها في العزة والكرامة والحرية والعدالة والمساواة فطغى. والجماهير حين تفعل ذلك مع أيّ مستبد على وجه الأرض إنّما تفعله بدوافع الأوهام التي يصنعها في عقولهم إعلام الطاغية وتدبيرات الحاشية، مرة بالخوف على الشعب وثانية بالخوف من المجهول، وثالثة بالخوف من الفراغ!! وذلك كله على منافاة التوحيد ومناقضة الإيمان وعدم الإحساس بوجود الخالق ووحدانيّته وتفرده بالألوهيّة والربوبيّة والتدبير والتقدير فالأوهام التي يصنعها الإعلام والحواشي تصور الطاغية وهو فرد بأنّه أقوى من الملايين من أبناء شعبه وتحول بينها وبين أيّ وعي يمكن أن يحررها من الخوف لأنها لو زايلها الخوف لشعرت بإنسانيَّتها وكرامتها وعزتها وحريّتها ولشعر كل فرد منها أنه كفء للطاغية من حيث القوة ومساو له من حيث البشريّة وأنّه أي الطاغية المستبد لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله.
وإن حاول إعلامه وحاشيته خداعها وإيهامها بأنّ المستبد يملك لها شيئا وما يقلق الطغاة شيء مثل ما تقلقهم وحدة أمتهم وتكاتف شعوبهمن ولذلك جعل الفراعنة أهل مصر شيعا وطبقات مستعلية ومستضعفة إذ لا يمكن للاستبداد والطغيان أن يستقر في أمة كريمة أبدا أو يستمر في أمة موحدة ذات وعي ورشد، إذ يستحيل أن يطغى فرد في أمة راشدة تعرف ربها وتؤمن به وتوحده وتأبى أن تُستعبد لأحد خلقه، لا يملك لها ضرا ولا رشدا وقد يستمر المستبد في استبداده وتستمر الأمم في خضوعها وخنوعها وذلتها وانسحاقها فلا تتقبل الوعي إلا في حياة أخرى حين لا ينفع الوعي ولا يجدي الندم فيقف المستبد إلى جانب الشيطان ليقول لقومه مثل ما قال الشيطان: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(إبراهيم:22)
ولا ينجو –آنذاك- إلا المقاومون الموحدون الذين آمنوا بالله ورضوا به إلهًا وربًا وخالقًا متفردًا في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله هؤلاء الذين يقال فيهم يوم القيامة:]فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[(غافر:45-51).لقد أعماهم الطغاة وحواشيهم عن أن الله –تبارك وتعالى- سينصر رسله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فاستهتروا بوعد الله وتقبلوا أوهام الإعلام وحواشي الطغاة والمستبدين فلم يثقوا بنصر الله فانهزموا أمام الطغاة واندحروا أمام المستبدين فخسروا دنياهم التي أوهموا بأنّهم سوف يحافظون عليها بانحيازهم للمستبدين واستزلامهم للطغاة وخسروا الآخرة فلا نفعهم الاستبداد في الحياة الدنيا ولا أغنى عنهم شيئا في الدار الآخرة التي هي الحيوان لو كانوا يعلمون.
ولا علاج للاستبداد إلا وعي الأمة «بالتوحيد» وعيا كاملا شاملا ودقيقا فذلك الوعي هو الضمانة الحقيقية لرفض الاستبداد ومقاومته ولذلك جعل الله –تبارك وتعالى- التوحيد أهم ما اشتملت عليه رسالات الأنبياء وأهم ما قامت عليه دعواتهم ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[(النحل:36) والاستبداد قد يقع بقوة الحكم والسلطان وقد يقع بقوة المال والعلم إذا خلا من مراقبة الله تعالى.
ولقد ضرب الله -تبارك وتعالى- لنا في القرآن أمثلة عديدة منها مَثَل فرعون الذي أوتي القوة والسلطان فعَلا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ]إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[(القصص:4)وضرب لنا مثل العلو والاستعلاء والطغيان بالمال والعلم بقارون الذي كان من قوم موسى فاستبد على بني إسرائيل وبغى عليهم بما أوتيه من مال وعلم جعلاه يتوهم أنه قد انفصل عن البشر وصار فريدًا لا يجمع بينه وبينهم جامع فقال:]قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[(القصص:78)ونسي الله في حين قال فرعون ]وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي[(القصص:38) كلمة شديدة الفجور تكاد السموات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا ومع ذلك تلقاها الملأ بالإقرار والتسليم ولم يصدر عن أيّ منهم أيّ اعتراض. ثم تظاهرا بالجد وقال:]وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ[(غافر:36-37) ليوهم أولئك الأغبياء المستضعفين بأنّه إنسان موضوعيّ ومتألّه متواضع يبحث عن الحقيقة بوسائلها ولا يقول إلا عن علم وبحث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.