40 سنة فى خدمة العدالة.. من ضابط شرطة إلى تيار الاستقلال ورئاسة أكبر جهاز رقابى بالدولة 600 مليار جنيه فساد تفتح النار على "جنينة" بأمر الرئيس اتهامات بالأخونة والإضرار بالأمن القومى تطارد القاضى الذى واجه فساد أنظمة "مبارك" و"العسكرى" و"السيسى" عبر روايته البديعة "يوميات نائب فى الأرياف" نقل الكاتب والأديب الكبير توفيق الحكيم واقع الحياة النيابية وكواليس السلطتين القضائية والتنفيذية فى مصر بصورة أقرب إلى المحاكاة والمعايشة اليومية الحية الممرورة، التى ما زالت صالحة للعرض حتى الآن، رغم مرور سبعة عقود على طباعتها، خلال إحدى المواجهات مع "باشكاتب" النيابة الذى رفض تدوين ما يُملى عليه من اتهامات الحكومة بالتدخل فى الانتخابات وتزوير إرادة الناخبين لصالح مرشح النظام، حينذاك ذكر الحكيم على لسان القاضى عدة كلمات تلخص حال العدل فى مصر، حين قال له صارخًا بعد أن ضاق ذرعًا بالواقع المصرى: "القانون هو الحكومة وسلامة الإجراءات والشكل هى العدل وأى واحد يتعلق على المشنقة علشان جريمة قتل وأى واحد يروح اللومان علشان سرقة يُشكُم الفلاحين ويردعهم ويحقق الأمن، مش مهم مين اللى قتل.. مين اللى سرق.. المهم الأمن والأمن هو العدل".. هكذا كان حال النظام الحالى فى معركته الأخيرة التى تم شخصنتها مع المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، إثر تصريحاته الكارثية عن وصول فاتورة الفساد فى مصر إلى 600 مليار جنيه خلال الأربعة أعوام الماضية. جنينة يدخل عش الدبابير تصريحاته الأخيرة التى تسببت فى قصف جبهة مدوية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسى، فتحت النيران على القاضى من كل الجبهات، بداية من مؤسسة الرئاسة التى لم تُرسل إليه أو يستدعيه الرئيس ليجلس معه ويناقشه فى حقيقة ما قاله وتوضيح تفاصيل الرقم المُفزع الذى نشره، إنما بادرت بتشكيل لجنة تقصى حقائق فورية لدراسة وتحقيق ما جاء فى تصريحات جنينة عن قيمة وحجم الفساد فى مصر، والتى خرجت بتقريرها أمس الثلاثاء تتهم جنينة من خلاله بالتضليل وفقدان المصداقية ونشر بيانات كاذبة، ورفع التقرير إلى رئيس الجمهورية الذى أحاله إلى مجلس النواب، واكتفى رئيس الجهاز الرقابى المُتهم بالتشكيك فى مصداقيته من قبل لجنة تحقيق مُشكلة من "الرئاسة"، بعبارات مقتضبة أن الرد سيكون بعد ذكرى ثورة 25 يناير الخامسة واحتفالات أعياد الشرطة حتى لا يُسخّن الشعب، حسب تعبيره. فى كل تقرير له معركة وملف ينضح بالفساد والنهب العام المعشش فى عدد من مؤسسات الدولة، منذ اللحظة الأولى التى قرر فيها الدخول إلى دهاليز العمل العام، لأكثر من أربعة عقود مضت اختار أن يدخل عش الدبابير بيديه، إثر تخرجه فى كلية الشرطة، وعمله فى سلك النيابة العامة والقضاء وتدرجه فى المحاكم والنيابات، وصولا إلى تعيينه من قبل الرئيس المعزول محمد مرسى فى رئاسة أكبر جهاز رقابى فى مصر، وبدوره يرفض المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، كل البطولات الزائفة وتنهال عليه الأقلام، وأصابع التشويه والاتهامات بالأخونة والخيانة مع كل تصريح له مُدعمًا بالأدلة والمستندات والحقائق والأرقام المُفزعة التى تُزكم الأنوف من كثرة ما تحويه من روائح فساد ونهب للمال العام تحت سمع وبصر الجميع، كثيرًا ما تتحول تصريحاته إلى أحاديث على مقهى الشارع السياسى، وتتداول تقاريره الرسمية الصادرة عن الجهاز الرقابى الذى يرؤسه منذ أربعة أعوام على نطاق واسع بين المواقع الإخبارية، وبرامج "التوك شو" وصفحات "السوشيال ميديا" لتتحول إلى قضايا رأى عام. قاض ضد النظام قبل سنوات من وقوع ثورة 25 يناير وانتفاضة الغضب الشعبى التى خرجت إلى الشوارع والميادين تنادى بسقوط حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وفى عز سطوة نظامه الحاكم وحزبه الوطنى المحتكر للحياة السياسية والحزبية فى الشارع المصرى لعقود طويلة كان أحد أبرز قضاة تيار الاستقلال بنادى القضاة برئاسة المستشار زكريا عبدالعزيز، والمنادين بتطهير القضاء من رموز الفساد وأباطرة الاستيلاء على المال العام مع ضرورة فصل العمل القضائى عن أى سيطرة من قبل وزارة العدل التى تعتبر إحدى أذرع وأدوات السلطة التنفيذية، وكان ذلك جليًا خلال انتخابات مجلس الشعب فى عامى 2005 و2010 التى برز من خلالهما الدور الأكبر لتيار استقلال القضاء الذى ولِد من رحم تلك الانتخابات البرلمانية التى حملت شُبهات "التزوير"، حينذاك انتفض أعضاء التيار الجديد لفضح وقائعه أمام الرأى العام وكشف فساد الحزب الوطنى المنحل ومن بعدهم مناهضة جماعة الإخوان المسلمين عقب إصدار الرئيس المعزول محمد مرسى إعلانه الدستورى المُكمل المُحصن ضد العزل أمام الجهات القضائية، وهو ما اعتبروه تقويضًا وانتهاكًا لصلاحياتهم والقانون. وقف ضد فساد وانتهاكات قيادات أمن الدولة السابقين وكل الأذرع الأمنية لنظام المخلوع "مبارك" وكان له تصريحات بارزة ضد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى الذى وصفه ب"الذراع الأمنية لنظام مبارك وممدوح مرعى، وزير العدل الأسبق وقتها هو الذراع القانونية لاستهداف القضاء، وأن النظام كان يحتمى بالقضاء لتزييف الانتخابات وتزوير إرادة المصريين"، فلاش باك سريع إلى ثلاثينيات القرن الماضى و"يوميات نائب فى الأرياف" نغوص فى أروقة المحاكم لنكتشف واقع القضاء فى مصر، حين دوّن توفيق الحكيم على لسان القاضى مستعيذا من الحال الذى وصلت إليه العدالة فى مصر: ألهذا الحد تعبث السياسة عندنا بالعدالة والنظام والأخلاق.. شىء مخيف!
وبعد ساعات من قرار تعيينه فى رئاسة أكبر جهاز رقابى فى الدولة وُكِل إليه الرقابة على مصروفات كل الأجهزة العليا للدولة، وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة والقوات المسلحة، وجهاز المخابرات العامة والحربية ووزارة الداخلية. عقب ثورة 25 يناير وتولى المجلس العسكرى إدارة أمور البلاد خلال المرحلة الانتقالية ومنح رجال الجيش الضبطية القضائية فى حال وقوع أحداث شغب نتيجة قرار المحكمة الدستورية الصادر حينذاك بالعزل السياسى لقيادات الحزب الوطنى المنحل، وهو ما انتقده جنينة، وأرجع ذلك إلى نقص درايتهم القانونية بالجريمة والأمن الجنائى، وهو ما وصفه بالاعتداء على الحريات وعودة لقبضة العسكريين على الحقوق، ونوعًا من الالتفاف حول حالة الطوارئ التى تم إلغاؤها عقب الثورة. حينذاك تلقى جنينة تهديدات من بعض القيادات العليا فى وزارة الداخلية والنيابة العامة بعد كشف فسادهم عبر تقارير الجهاز، وأعلن أنه سيقاضيهم جميعا، كما جاء فى حديثه لبرنامج "البيت بيتك" على فضائية "ten". جنينة يواجه شبح العزل نقطة التحول الأكبر ضد المستشار هشام جنينة جاءت عقب خسارته انتخابات نادى القضاة أمام المستشار أحمد الزند، وزير العدل الحالى، الذى فاز برئاسة نادى القضاة ومنذ ذلك الحين بدأ الزند فى ممارسة سلطاته القوية وعلاقاته بالنظام الحاكم والصلاحيات التى يمنحها له رئاسة النادى بشن الهجوم على قيادات وأعضاء تيار الاستقلال داخل النادى، وتقديم البلاغات ضدهم عبر محامين ووسطاء لتصفيتهم من النادى، وتشويه صورتهم أمام الرأى العام، ومن ثم تحويلهم للصلاحية واحدًا تلو الآخر لأكثر من 30 قاضٍ منهم حتى أصبح تيار إصلاح القضاء مُترهلا وفارغا من أعضاء جبهة الاستقلال الذين كانوا يصدحون بالحق فى أزهى عصور القمع والفساد والتزوير تحت حكم مبارك. وبدوره حوّل الزند معركته مع تيار استقلال القضاء إلى خصومة شخصية مع رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات بعد اتهامات عديدة له بالتجاوزات والممارسات المسيئة للقضاء من قبل رئيس النادى، والإضرار بالمال العام عبر مستندات وبلاغات تتهمه بالفساد المالى والإدارى والاستيلاء على 250 فدانًا بمحافظة مطروح والإضرار بالمال العام، وفقًا لما ورد فى البلاغ رقم 10797 لسنة 2012 وهو ما أورده جنينة بالتفصيل فى حوار سابق له مع الإعلامية رانيا بدوى على فضائية "التحرير". بدأت معركة تصفية جنينة عقب ساعات من صدور القرار الجمهورى رقم 89 لسنة 2015 الذى يمنح رئيس الجمهورية سلطة إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات القضائية المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم فى حالات بعينها، كثيرون وصفوا ذلك القرار أنه خُصص على مقاس رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، الذى يقف شوكة فى حلق النظام الحاكم للإطاحة به. وبعد أربعة أشهر من صدور القرار السابق أتبعه السيسى بقرار آخر فى الثالث عشر من ديسمبر الماضى بتعيين نائبين له فى الجهاز، وفرضهما عليه دون إبلاغه، أحدهما مساعد وزير العدل الحالى المستشار هشام بدوى، المحامى العام الأول لنيابة أمن الدولة الأسبق، وإحدى قيادات الجهاز المركزى للمحاسبات وتُدعى منى توحيد، التى اختارهما الرئيس عبدالفتاح السيسى فى عضوية لجنة تقصى الحقائق للكشف عن حقيقة ال600 مليار جنيه فساد خلال فترة حكمه لتخرج بتقريرها الصادر أمس لتتهم جنينة بأربعة اتهامات دون أن تكشف الرقم الحقيقى للفساد فى مصر. اتهامات بالأخونة بين التضليل والتضخيم وإساءة توظيف الأرقام والسياسات فى حجم وقيمة فاتورة الفساد وعدم المصداقية فى تجميع وقائع إهدار للمال العام وقعت منذ 10 سنوات، والإغفال المتعمد لملاحظات سبق إقرارها فى تقارير الأعوام الماضية جاءت اتهامات "تقصى الحقائق" لجنينة، وشنّ حملات الهجوم و"التحفيل" على رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من قبل بعض الإعلاميين، الذين سبق أن اتهمهم بالوقوف وراء رؤوس الفساد ليردوا له "الصاع صاعين"، ويتهمونه بأنه "إخوان" تم تعيينه من قبل الرئيس الإخوانى من أجل محاولات عزله من منصبه الرقابى، إضافة إلى البلاغات الأخرى العديدة المقدمة ضده خلال الأيام الماضية بعد ساعات من نشر تقرير تقصى الحقائق الذى تم تشكيله بأمر الرئيس. تتنوع الاتهامات الموجهة إلى جنينة بين نشر أخبار كاذبة تهدد السلم العام والإضرار بالاقتصاد والأمن القومى، مما دفع أكثر من 50 عضوًا تحت قبة مجلس النواب للانتفاضة والرد عليه عبر التوقيع على طلبات عاجلة لإحالته إلى النيابة، بعد استجوابه حول ما ورد فى التقرير من أخبار كاذبة وعدم صحة ما أثاره من بيانات تتعلق بحجم الفساد فى مصر خلال عام 2015 دون كشف وقائع الفساد التى تناولها التقرير خلال السنوات الأربع أمام الرأى العام.