اليوم: صفر.. صحوت فوجدتنى وحيدا فى الواحة. كلهم غادروا. لا شىء حولى سوى نخل عال، وطرح ناضج أفلت من تماسك التمرات فى عليائها، فتناثر حولى على الرمال. وانعكاس لافح للشمس على صفحة ماء النبع الرائق. ناديت مرات، فلم يجبنى أحد. كيف أضاعونى؟ كيف غادرت المسيرة ونسونى هنا؟! آثار المخيم على مسافة منى -ليست ببعيدة، ولا قريبة- كيف ابتعدتها عن الخيام؟ أما كان عليهم أن يحصوا أعدادنا قبل الرحيل؟ أم أنهم تجاهلوا -حين انتبهوا لغيابى- بذل جهد البحث؟ لم أكن أحب أفكارى كثيرا. بشكل عام، يضايقنى التفكير، فصرخت فى عقلى أن يصمت. لففت أركان الواحة لسبع مرات يأسا، ثم هرعت أغادرها إلى رحابة الصحراء. اليوم الأول.. ما زلت أركض -برغم سخونة نهارية حارقة- مطلقا مزيدا من نداءاتى. أتلفت حولى. أخشى الضياع فى هذا الفراغ الأصفر، وأنا لا أعرف الطريق. كانت مسيرتنا تقطع مسافة أجهلها من قريتنا إلى مدينة لا أعرف موقعها. لا علامات على الطريق، لا قوافل تمر، وأنا لا أجيد مسائلة النجوم عن الاتجاهات. لذا كان الضياع فى الصحراء هو اختيارى الوحيد. واصلت مسيرتى وحيدا -نهارا وليلا بلا توقف- لأننى لم أجد شيئا أفضل أفعله. اليوم الثانى.. قبل انتصاف الشمس فى السماء مرت بى قافلة حجيج. كدت أسعى إليهم، المسافة بينى وبينهم تفصلنى عن تحقق أمل وحيد. ولكنه خوف يشب فى قريتنا معنا، طفلا ثم مراهقا ثم رجلا، له فى نفوسنا احترام كشقيق رضاعة! هو من قيد قدمى، وجعلنى أتوارى عن العيون، خوفا أن يكونوا لصوصا متنكرين فى أزياء حجيج. اليوم الثالث.. عند المساء كان العطش قد عبر بى مرحلة جفاف الحلق، إلى مرحلة الدوار، وضبابية الإبصار. رغبة الاستسلام لمعانقة الرمال، كانت أقوى من مقاومتى، فتركت جسدى للتداعى. كان يضايقنى التفكير، وما فلح معه صراخى لإخراس عقلى. داعبتنى الرؤى، وتجليات الموت الوشيك. كيف أموت هنا، فى صحراء لا أعرفها، وتحت سماء لا تعرفنى؟ وحيدا، بعيدا عن أهلى، ضائعا عن مسيرتنا التى بالتأكيد بلغت مطافها الأخير. رفعت بصرى لأعلى، لعلى أدرك -فى سكرة موت- وجه ربى، فأعاتبه. راوغتنى صور الأحباب والأصدقاء -الذين تركتهم فى المسيرة- دون صورة الرب، فغلب شوقى إليهم عطشى. اليوم: صفر.. الشبحان المضببان اعتليا رأسى. الشمس فوقهما، تراقص حدود جسديهما على ساحة عينى، فيغيب عنى تمييزهما. أحدهما انحنى على رأسى يسنده، ويروى جفاف شفتى، بفوهة قربة الماء، فأخذت أمتصها، كرضاعة أولى لولادة ثانية. - أين كنت؟ وكيف غادرتنا؟ عندما قالها الآخر، انتبهت إليهما بكامل إدراكى، فعرفت فيهما اثنين من حراس المسيرة. كنت أصارع جنون فرحتى لأشرح له أننى لم أغادر، وأنهم هم من نسونى فى الواحة، ولكن كلماتى كانت مشوهة، وحروفى ممضوغة جوعا. حملانى عائدين بى إلى الجمع المنتظِر. هلل أصدقائى وأهلى مبتهجين، فسعدت لسعادتهم، وباغتتنى عودة القوة، فصرخت فرحا وأنا أحتل مكانى الشاغر فى قلب المسيرة. أعادنى الحارسان إلى السلسلة الحديدية الطويلة. أحكما وضع الأغلال حول معصمى، فبدأ جسدى يتحرك قسرا مع جذب الخيول للسلسلة المربوطة فى أجسادها، تقودنا إلى مدينة لا أعرف لها اسما يسكنها مُلاكُنا الجدد. لحظتها نظرت للرجل المقيد بجوارى، فوجدته يتأملنى وفى عينيه فرحة.. بادلته الفرحة وابتسمت له.