لا أظن أن هناك شخصا واحدا فى هذا العالم يحسدنى على حالى أويفضل أن يستبدل مكانه بمكانى صحراء. رمال وراء رمال لم أرى سواها لعدة ساعات. الشمس تلفح كل قطعة من جسدى وتشوى جبينى. لا أرى غيمة واحدة فى السماء وكأنى فى مكان لا يعرف الظل له عنوان وحلقى فى جفاف هذه الرمال. لا.. ليس معى أى ماء.. ولا قطرة واحدة.. لم يسعنى سوى أن أنجو بنفسى وبه من حطام السيارة قبل أن تحترق بلحظات صديقى الغبى. أقسم أنه يعرف طريقا مختصرا فى قلب الصحراء ينهى المسافة كلها فى نصف المدة فأخذ يلف ويدور متعاليا على حقيقة أنه قد ضل فى الصحراء ولم يعد يعرف أين نحن أصلا.. وفجأة برزت هذه التبة الصخرية فاصطدمت بها السيارة فى عنف وطارت فى الهواء ثم تقلبت عدة مرات قبل أن تستقر على جانبها المعاكس لى بقوة ماذا حدث.. هل مازلت حيا؟.. آه ما هذه الآلام.. حسنا.. انى حى أدور ببصرى فيما حولى قدر المستطاع.. هذا ابنى ذو الأربع سنوات ينظر إلى فى فزع ودهشة ولا يجرؤ على البكاء. هذه زوجتى يتدفق الدم من رأسها ولا يبدو عليها أى مظاهر للحياة. ألمح من وضعى الصعب فى المقعد الخلفى للسيارة صديقى وزوجته فى المقعد الأمامى. انهما لا يبدوان فى حال أفضل من حال زوجتى ومض هذا الخاطر فى عقلى فجأة "ستحترق السيارة حالا يجب أن تخرج بسرعة".. جررت نفسى خارج السيارة من النافذة المجاورة.. آه ان ساقى مكسورة.. ثم أخرجت ابنى.. حمدا لله.. انه سليم تماما.. تذكرت الآن.. كانت أمه تحتضنه بقوة وقت الحادثة فلم يتأثر سوى بجرح بسيط فى رأسه أخذت أجر نفسى بعيدا عن السيارة وأهتف بابنى أن يجرى بعيدا حتى.. حتى انفجرت السيارة بالفعل بابا هى ماما ماتت؟ وانفجر باكيا.... لا أعرف ماذا اقول له..لا أجد ما أقول.. أربت عليه فى ضعف وأصمت بابا عاوز أشرب. انها المرة العاشرة التى يقولها.. بابا أنا تعبت قوى.. وهذه السادسة.. أجرب أن أحمله ولكنى لا أستطيع. ساقى المكسور وجراحى النازفة والتعب المضنى الذى أشعر به لا يمكننى من حمل ابنى المتعب الذى أوهنه العطش والجوع وحرارة الصحراء ومرت ساعات أخرى.. وأخرى.. لا أعرف أين نحن.. لا أعرف أى طريق يجب أن أسلكه بابا أنا عطشان قوى.. أنظر إلى ابنى.. ماذا أفعل؟ أدور ببصرى حولى فى يأس.. ألمح بعض الدماء تسيل من جرح فى ذراعى. أمد ذراعى جهة فمه.. يفهم انى أريده أن يشرب. أحس به يلعق الدم ثم يتوقف..ان مذاقه لا يعجبه.. يحاول أن يلعقه مرة أخرى.. ثم يتوقف.. ثم أخرى.. الآن قد اعتاد عليه أحس به يشرب منه فى نهم. أخيرا وجد ما يشربه.. هذا غريب ولكن ليس لدى حل أفضل منه. فليشرب دمى مادام لا يوجد غيره فقدت الوعى لبعض الوقت لا أعرف كم ولكن يبدو أنه وقت طويل.. آه.. ما هذا الألم العنيف فى ذراعى. انه ابنى ينهم من دم ذراعى ولكن يبدو أن الدم قد نفذ فيحاول بأسنانه فى قوة عسى أن يقطر من جديد.. آه هذا مؤلم.. أبحث عن موضع آخر يمكنه أن يشرب منه. نعم هذا جرح صغير فى ذراعى الأيسر سأحفره بأظافرى. ها قد سال دم جديد.. اشرب يا بنى ترى كم يوم مر؟ ظهرى يفترش رمال الصحراء..لا أستطيع أن أحرك عضلة واحدة فى جسدى. أعرف انى مثخن بالجروح والكدمات ولكنى لا أشعر بأى ألم حتى ساقى المكسورة لم أعد أشعر بها.. ألمح ابنى يجثو على ركبتيه عند أسفل ساقى.. لقد فعل بجرح فى ساقى مثلما فعلت منذ أيام بجرح ذراعى الأيسر.. عرف ماذا يفعل ليروى ظمأه.. ما هذا.. أرى ابنى يلوك شىء فى فمه.. من أين جاء به ؟ أدور ببصرى فيما حولى باحثا عن مصدر الطعام.. يقع بصرى على ساقى.. آه عرفت مصدر الطعام حمدا لله لقد أفاق أخيرا أفتح عيناى فى صعوبة لأرى صورة باهتة لوجه رجل.. يبدو أنك قضيت فى الصحراء وقتا طويلا. هناك آثار عض وبعض اللحم منزوع من ساقيك وذراعيك.. هل قابلك حيوان مفترس؟ ان الولد يقول أنك أباه. لقد فحصته ولم أجد به أى جروح ولكن الدماء كانت تغطى وجهه وملابسه.. لماذا؟! لقد مررت بوقت عصيب.. أرسلوا ابنه كى يراه.. انه يحبك كثيرا. ظل يجلس بجوارك طوال الأربع ليالى السابقة.. انه يرفض الماء والطعام.. ولا أعرف حقا كيف يعيش هكذا. حاول اقناعه بأن يأكل شيئا لقد نزف ذراعك مرة أخرى.. كلما ضمدته لك أجد الضمادات مفكوكة فى الصباح! ابنى؟ لقد تغير وجهه كثيرا.. هذا السواد حول عينيه.. هذه النظرة العجيبة.. هاتين الشفتين الباهتتين سأعطيك هذه الحقنة.. آه يالى من أحمق.. جرحت اصبعى. ابنى يعدو نحو الرجل.. يحاول أن يأخذ يده.. يحاول أن يدس اصبع الرجل فى فمه ليشرب الدم.. يصرخ الرجل فزعا وعجبا. يحاول أن يبعد نفسه عن ابنى. يحاول أن يبعد ابنى عنه.. يصطدم الرجل بالحائط.. يقع على ظهره.. يجثم ابنى على صدره ويفتح فمه بكل اتساعه ليقرض اصبع الرجل. ما هذا الذى لمحته فى فم ابنى؟ ما هذين النابين الطويلين؟ يااااه.. هل أصبح.....ويلى ماذا فعلت بابنى؟! نسرين فتحي ابراهيم
التعليق: قصة ممتازة، امتزاج الفكر والخيال، وإحكام التسلسل، والنهاية الدقيقة. ولا أرى وجهاً للمقارنة بين هذه وسابقتها. أقترح فقط إلغاء الجملة الأولى، والبدء ب"صحراء....". مع ضرورة إصلاح الأخطاء اللغوية الكثيرة. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة