«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة فى الفصل الأول من رواية " فى إنتظار السلحفاة " (2-2)
نشر في شموس يوم 23 - 04 - 2012

أيقظونا بركلتين قويتين، لي ولها، لا أعرف كيف دخلوا إلى غرفة نومنا، لطمني أحدهم في فمي، أمسك بي أحدهم بقوة، مصوبا المسدس إلى رأسي، أما الآخر فقد أخذ يوجه الضربات إلى بطني، ضربة تلو أخرى، والشخص الثالث أمسك بزوجتي، والرابع أخذ يضربها، ويسمعها عبارات قذرة، كنا في ملابس النوم، وكانت زوجتي تصرخ بشدة، وكنت أسأل ماذا حدث؟ من أنتم؟ ماذا تريدون؟،
وزوجتي تسأل: ماذا فعلنا لكم؟، وكان الرجل الخامس يبحث في المكان عن شيء ما، وكان كبيرهم في المنتصف بيننا، ينظر إلينا في صمت، وبحقد، كان يعبث بمسدسه، أدخل سبابة يمناه في حلقة الزناد، وأخذ يدير المسدس، وكان صدره يزداد حجما، كأن شيئا ما بداخله كان ينمو، وحين بلغ اللحظة التي اكتمل فيها النمو، لطمني على وجهي، وقال:
-" أين الصندوق؟".
إزدادت ضربات قلبي، وشعرت بإعصار ما يضرب أعماقي وقلت:
-" لا أعرف عم تتحدث؟".
-" يبدو أنك ماكر جدا، ولكن نحن سنعرف كل شيء، فستقول لنا بسهولة".
ضربني بقبضة يده على فمي، وتدفق الدم بغزارة، وركلني أسفل الحزام، وكان الألم لا يمكن تصوره، كاد يغمى عليّ، أحسست بمرارة الألم في كل جسمي، انحنيت مغمضا عيني، وكأنني غبت عن الدنيا، بعد مدة، سمعته يسأل زوجتي، وهي تقسم له أن قصة الصندوق عبارة عن هراء، وأنني مريض نفسيا أتخيل أشياء ليست موجودة في الواقع، يبدو أن لدراسته السينما أثر في ذلك"، هكذا تحدثت جهيزة وهي تتلعثم، وظنت أنها بكلماتها هذه ستقطع قول كل خطيب، ومن أجل ذلك حصلت على مكافأة، كان الرجلان يشدان شعرها كلما أنكرت، أخيرا لطمها الرجل كما فعل بي، وقال:
-" إما أن تحدثينا وإما أن نفعل بك وبزوجك الأفاعيل، وسنجعل كل منكما يكره رؤية الآخر إلى الأبد، ربما سمعت عن ذلك الرجل الذي فعلنا به ما سنفعله بكما وعندما أطلقنا سراحه، تحول إلى وحش، كان يغرز المدية في بطن كل من يسأله عن المعتقل، يظن أن كل الناس قد رأوه، لقد عاد بنفسه إلى السجن، وأعتقد أنكما شابين، ولا يرضيكما مصير كهذا!".
كانت زوجتي تصرخ وتستغيث بي، قال لها كبيرهم:
-" سنثبت لك بعد قليل، أنك متزوجة من أنثى".
وأخذ يمرر مسدسه على صدر زوجتي، أغمضت عيني كيلا أرى، وكانت تصرخ، وأنا أحاول أن أنزع نفسي من أيدي الطاغيتين، وأخذت أبصق في وجه كبيرهم بشدة، وضعوا شريطا لاصقا على فمي، لطمني كبيرهم وقال:
-" هل تريد أن ترى ما نريد أن نقوم به أم من الأفضل أن نعصب عينيك؟".
امتلأ صدري بالغيظ، وكنت كقنبلة على وشك الانفجار، ونزعت يدي من العتاة وتقدمت نحو كبيرهم وأنا أصرخ صرخة مزقت الشريط اللاصق، أمسكوا بي، عصبوا عينيّ، لم يقوموا بشيء آخر، أخذوني إلى المعتقل، وتركوا زوجتي، أو أخذوها، لا أعرف، في الطريق ونحن في العربة، كانوا يرهبونني، سمعت أحدهم يقول:" سأقلع أظافرك"، وآخر:" سأجلسك على الكرسي الكهربائي"، وآخر:" سأجعلك تمشي في غرفة مليئة بالمسامير والزجاج المكسور"، وآخر:" سأجعل منك حساءا لكلبي"، وآخر:" سأخصيك"، وآخر:" سأغتصبك"، في تلك اللحظات تمنيت أن أموت، فتحوا العصابة التي في عيوني، وجدت نفسي أمام الضابط، ابتسم لي وقدم لي سيجارة، قلت: "لا أدخن"، سألني عن الصندوق، فذكرت له القصة، كان ينظر إلى التلفزيون وأنا أحكي له، كان البرنامج عن سباق الثيران، لا أعرف إن كان هو أيضا من هواة مصارعة الثيران أم يشاهد من أجل المتعة، أنا أيضا كنت أشاهد وأحكي له، وعندما انتهيت، قال:" لقد نشرت قصة عن فدائية عجوز، أليس كذلك؟، قلت:" نعم، كأنك تقصد أنني لفقت قصة الصندوق"،
قال:" سنعرف ذلك لاحقا، والآن أحك لي قصة الفدائية العجوز، أخذت أسردها ولم ينتبه إليّ إلا حين قلت:
" ....ليلة مريعة، وحين لاحت خصلة الفجر لعينيها المحاطتين بالتجاعيد، وطبول في أعماقها أكبر من حجم الأرض بآلاف المرات، تنوح على فقد شعاع كان ينوّر عتمتها الحالكة، تأكدت الفدائية العجوز من أن القصة لمّا تنتهِ بعد، وأن عذابات ليلة البارحة ستُلبس ثوبها الأسود للصباح، وأن الرجل الذي جاءها في العصر وأخبرها بمكان تسليم السلاح، ربما كان خيالا، لقد خرجت متسللة، وأنستها فرحتها وجود مخاطرة قد تؤدي إلى الاستشهاد، كانت أمامها مشكلة التعرف على الأمكنة، ولذلك ضلت الطريق في هذه الغابة التي لم ترها قط، وانتظرت حتى الصباح لتهتدي إلى طريق، وحزرتْ أن الغابة ما زالت حبلى بالمفاجآت، المفاجآت التي اختبأت زمنا طويلا في كهف ما، لتأتي إليها دفعة واحدة، بعد أن تجاوزت السبعين من العمر، وصارت تلبس حزن الحاضر مصبوغا بسواد الموت السابع للقطة، في هذه الأيام، ازداد حزنها لأنها لم تستشهد حتى الآن، وازداد تعلقها بالموتى وأغراضهم، أغراضهم التي يسميها البروفسور استيوارت بيغوت ب(علم القمامة) .
سمعتْ عواء الذئاب وزئير الأسود، وجعلها الضجيج كمن يعيش في محطة القطار وهو مصاب بصداع مستمر، تصببت عرقا حتى بدت مثل تمثال من الشمع على مقربة من فوهة بركان، وكانت تشاهد الأشباح وهي تحوم حولها وكأنها لم ترها، ورأت الغيلان في الأشكال التي كانت تحكي عنها جدتها، ارتجفت بطريقة غير اعتيادية، وأدركت أن هذه إشارة باقتراب خطر ما، خصوصا أن فمها قد ارتخى كثيرا، وأحست بانقباض عنيف في قدمها اليسرى.
وهنا فكرت في الهرب، لكن الأصوات كانت تأتي من كل مكان، وكانت الخيالات تتراقص أنّى ترسي نظراتها المهشمة بفعل الخوف الشديد، وتفكر في الحرب القادمة، وهي ترتجف، خطرت على بالها فكرة خالدة: لماذا لا تزيح عن قلبها هذه الأصباغ التي جعلته كالمهرج، وتصغي إلى جهة تكون فيها الأصوات خفيفة توحي بقلة الكائنات، اختارت الجهة التي أمامها مباشرة، كانت تمشي ثم تلتف بساق شجرة وتكتم أنفاسها وتذيب كل خلاياها في سكون عميق، وتبينت فجأة أن الليلة الموحشة كانت مقمرة، لكن القمر كان مخفيا بهياكل عظمية تطير في الهواء كالسحب الكثيفة، وحين انقشعت الهياكل، حلت الغمائم محلها فأسدت إليها معروفا، إذ غطت القمر بسرعة، كفتاة حيية حين ينكشف شيء من صدرها للرجال، التصقت بشجرة ذات أشواك سامة، وحين اقترب منها حيوان كان يشمشم في الأرض بصوت مسموع، أغلقت عينيها بقوة، وكتمت بكاءها، وكانت الأشواك تتوغل في جسمها مثلما تتوغل هي في الشجرة.
وكانت تقرأ آية الكرسي، متخبطة في قراءتها مرات ومرات، وحين بلغت قوله تعالى:(ولا يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم)، كان الحيوان قد ذهب، ثم تحركت ومشت عدة خطوات، ولأنها لم تنظر إلى أسفل منها، سقطت في حفرة صغيرة مليئة بالمياه، فاتسخت ملابسها، وأحست بتدفق الدماء المفاجئ إلى فكها، كانت الأرض طينية، ولذلك لم يكن الخروج سهلا، وبعد عدة محاولات خرجت وهي تتلفت كطفل مطعون يتمنى أن يصادف من يسعفه، وسارت ما بين خوف يذيب جسمها وآهات التعب، وحين أشرقت الشمس وأعطى النور كل شيء شكله في العيون، وجدت نفسها في غابة محترقة، ورأت على بعد خمسين مترا منها، نهرا وجبلا خلف النهر، أكدت لها الشمس أيضا أنها تسير ناحية الشرق، لم يكن النهر عريضا، ورأت نقوشا على الصخور الملساء الكبيرة، وصورة كبيرة للشمس وقربها صورة لكلب.
قالت في نفسها: هذه صورة رمزية، ترمز إلى أن الكلاب البشرية دوما ما تكون بالقرب من التنويريين طلائع التغيير، لتحجب نورهم، ثم نظرت إلى الخضرة التي تتناثر على الجبل، وكأنها تنظر إلى الأمل، الأمل الذي يجعلها لا تمل الإصلاح، وأن نباح الكلاب لا يحجب أشعة الشمس، هكذا فكرت، كانت النقوش والتماثيل في كل مكان، كأنها قرية فضح طوفان ما، كل ما كانت تخفيه رمالها، وكانت أسراب الطيور تحلق فوق الجبل، وسمعت ضحكات غريبة، وتوصلت إلى أن هنالك بشر خلف الجبل، وتوصلت إلى أنهم أناس طيبون، ورسمت لحياتهم خارطة أولية قابلة للتعديل بعد الوقوف على أرض الحقيقة، ككل الصور الذهنية القابلة للرسوخ الجبلي أوالذوبان الجليدي، من تلك الملامح التي استطاعت أن ترسمها: أن حياتهم مبنية على الرعي والزراعة ولا يعرفون الصيد، لأن تلك الضحكات الشاعرية وهذا الفن يوحي بأنهم عرفوا أسرار الحياة، ولذلك لايمكن أن يقتلوا أي شيء حتى لو كان ذلك من أجل الطعام أو الدفاع عن النفس أو استخدامه في علاج ضعف الرجال، وعندما كانت توقع هذه الفكرة، استطاعت أن ترى جميع هذه السمات في تمثالين متقابلين، من ذهب، فتاة حسناء تدير وجهها خجلا وفتى وسيم يقدم لها وردة بنفسجية، وفوقهما طائر جميل يعزف على الناي، لدرجة أنها حين أصغت للأشكال باحدى طرق التأمل الخارقة، استطاعت أن تسمع لحنا حزينا يعبر عن الحنان لدرجة تسيل الدمع، وتوصلت مبدئيا إلى أن تلك المقطوعة تسمى ب(الحب الذي يبقى مرفرفا)، وتوصلت مبدئيا إلى أنها مقطوعة شعبية لمؤلف مجهول، استطاع أن يجسد قصة حب مشهورة بين عاشقين مر حبهما بعواصف اعتراض كثيرة، حتى انتحرا في هذا النهر، وطعن كل منهما الآخر طعنة رحيمة في الأورطى، ثم سقطا في النهر، وسبب ذلك أنهما كانا يعتقدان أن أرواح العشاق لها جزءان :أرضي وسماوي، وتسهيلا لعملية الخروج الكامل للروح، اختارا هذه الطريقة المزدوجة: الطعن الرحيم/الغرق، ولذلك اكتسب هذا النهر لونه الأحمر القاني، وسمعتْ الأمواج كأنها مرثية حزينة، وتخيلت أن الأهالي قد صنعوا لهما تمثالين من الذهب تكفيرا عن الظلم الذي لحق بهما، وقادتها هذه الأحاسيس إلى الاعتقاد بأن هؤلاء القوم غاية في الرقة والتعامل الإنساني.
وتخيلت أنهم حين يرونها، سيعُدون تلك اللحظة ضمن اللحظات التاريخية التي يُحتفل بها لأيام كلما قذفها نهر الزمن إلى شاطئ الحياة، ثم نظرت إلى منحوتة كبيرة جدا تجسد نشاطا اجتماعيا، اعتقدت بأنها مناسبة حصاد، رجل يضحك بشدة، امرأة ترقص وفمها مفتوح كأنها مغنية القبيلة، رجل ذو شوارب يضحك بشدة وفي يده كأس أزرق اللون، نساء يحملن على رؤوسهن آنية مستديرة وبعضهنّ منحنيات على أكوام محصول ما، صبي عار يطرد بقرة رافعا يده، البقرة ترفع ذيلها عاليا وأرجلها يمكن أن يقال عنها مبعثرة، أطفال يطيرون فوق الجميع بأجنحة بيضاء، مبتسمين بصورة تجعل الإنسان الرقيق يبكي لأنه سيتذكر فورا كل اللحظات غير السعيدة التي لم يعزفها على ربابة البهجة، امرأة بدينة بملابس بيضاء تصب الطعام، وصبي يقف بجوارها، ينظر إلى الطعام بإشفاق، في الأعلى، أي قريبا من زرقة السماء وبياض السحب التي تحيط بالشمس، رجال يذبحون الخراف وهم يبكون، وقربهم كلب ضخم، ورجال يؤدون، على الأرجح، تراتيل دينية، رجل ساجد حط على ظهره طائران ملونان، ورجال رافعي الأكف والأنظار إلى الشمس؛ لوحة موحية قادتها إلى الاعتقاد بأن هذا الشعب متعاون جدا، ومتدين لدرجة أنه لم ينسَ الله في لحظات الرخاء.
ثم نظرت إلى الرجل الذي يزين اللوحة بوقفته الخالدة، واضعا يده اليسرى على خصره ويشير باليمنى إلى الناس، وتركت تفاصيل أخرى لم تشاهدها بدقة، لأن المطر قد بدأ ينزل في تلك اللحظات، وبشدة، وهي تتحرك نحو النهر، طرأت على رأسها فكرة هي أن هؤلاء القوم في غاية الأمانة، فكيف تبقى كل هذه التماثيل الذهبية والحجرية، دون حراسة، بل إن بريق الذهب قد أوحى إليها بأن هنالك عملية تنظيف تتم في فترات محددة، وفي طقوس ساحرة، تشارك فيها حتي الحيوانات، كل هذا قد شجعها لتعبر النهر الأحمر، وحين اقتربت منه، وملابسها مبتلة تماما حتى التصقت بجسمها، بطريقة تجعل من الحركة أمرا عسيرا، كانت ترتجف نتيجة البرد القارس، لكنه أفضل من برد البارحة، في وحشة الغابة، اقتربت من النهر أكثر.
شمت رائحة الدم، أصيبت بالغثيان، لكنها فكرت في الأمان الذي سيوفره لها هؤلاء القوم وربما دلوها على الطريق وأعطوها راحلة، وحين التفتت إلى الخلف، رأت مجموعة من القردة تجلد نمرا، فخافت، لكنها تأكدت أنها في مكان آمن لحد ما، إلى أن تتغير زاويا رؤية الكائنات الأخرى، وحين وضعت رجلها لتتأكد من عمق النهر، أخرجتها سريعا، لأن نارا قد لسعتها وبشدة، واستغربت كيف تبقى النار متقدة برغم هذا الدم الجاري أو الماء؟، مر بالقرب منها جزع شجرة، ركبت عليه، وكانت تصرخ حين تميل الموجة إلى أسفل، الماء حار، ولذلك كانت تحافظ على رجلها حتى لا تدخل في الماء، وعليها أن تبقى بقدر الإمكان خارجا أو على الأقل في الطبقات الباردة نسبيا، وكانت تضغط بكلتا يديها على الجزع حتى عبرت النهر.
وكادت تسقط في النهر لولا أنها تعلقت جيدا بالشاطئ، مسحت بيدها على شعرها، فتلون شعرها باللون الأحمر، ولكن المطر الذي ما زال يهطل، أزال الاحمرار بعض الشيء، واستدارت حول نفسها ناظرة إلى ملابسها التي اصطبغت بالدم، وأخذت تتنظف بعض الشيء، بفعل المطر، صعدت إلى الجبل، وتوقفت قليلا عند تمثال العاشقين، وأصاخت كي تسمع مقطوعة (الحب الذي يبقى مرفرفا)، واتجهت إلى لوحة الحصاد، لكن المطر ازداد شدة، ودخلت كهفا، أحست فيه بأنفاس كائن حي، بل حين مدت رجلها اليسرى أحست بجسم حيوان ما، خافت خوفا مرعدا، وكانت تنظر عبر بوابة الكهف المظلم إلى المطر في الخارج، وهمّت بالخروج حين توقف المطر، ولكن مع أول خطوة لها، سقطت على الأرض، لأن شيئا ما قد أمسك برجلها المتأخرة بقوة، وحين حاولت القيام، كان ذلك الشيء ممسكا بها بقوة، دون أن يصدر صوتا، فقاومت بشدة، وحين تمزق جلبابها، تحررت من قبضة ذلك الشيء، واستطاعت أن تهرب، وحين نظرت إلى الخلف، لم تر شيئا يتعقبها، وحين صعدت إلى قمة الجبل، رأت في السفح أناسا بدواْ لها وكأنها تعرفهم، وكانت هنالك جلبة، خافت في البداية، لكنها تذكرت استنتاجاتها، فتشجعت، ولكن من باب الاحتياط، أخذت تلتف حول الأشجار، وتختبئ خلف الصخور، لترى ماذا يحدث هناك، وحين اقتربت أكثر وكانت خلف صخرة كبيرة، رأتهم وقد ربطوا رجلا على جزع شجرة، كأنه محكوم عليه بالإعدام، وأخذ رجل سيفه وضرب عنقه، فسقط رأسه في الحال، صفق الموجودون، وزغردت النساء، واشتمّتْ العجوز رائحة كريهة، فنظرت أسفل منها فرأت قطة صفراء ميتة، وبالقرب منها هيكل عظمي لحمار وقربه هيكل عظمي لإنسان، وقرب الإنسان قاذورات بشرية كريهة الرائحة بالطبع، وخطت عدة خطوات فوصلت إلى قبور قليلة متفرقة، ومضت حتى كادت أن تقترب من مكان اجتماع الناس، ورأت امرأة تقضي حاجتها مختبئة خلف صخرة، اختبأت منها بسرعة ولم تتحرك إلاّ بعد أن غادرت راكضة نحو الجمع، أخذت تنظر إلى المشهد العجيب، الرجل يضرب بالسيف، تسقط الرأس، ثم ترتفع ثانية وتلتصق بالجسم كما كانت، يبصق الضحية في وجه الجلاد، يقطع الجلاد رأسه، سقطت الرأس، وارتفعت ثانية، ليبصق الضحية في وجه الجلاد وهكذا، حتى تلطخ وجه الجلاد كله، صرخ الجلاد صرخة مدوية، وانتحر بسيفه، حمله الناس وغادروا المكان وتركوا القتيل في أغلاله، فهُرعت إليه، فكت عنه الأغلال، اكتشفت أنه الرجل الذي زارها بالأمس وأخبرها عن مكان السلاح، قال لها:"هؤلاء قومي، مجانين، وأنا بينهم مثل طائر مكسور الجناح، عشت بينهم غريبا، تشهد هذه الصخور وهذا الجبل على اللحظات التي قضيتها وحيدا، أفكر في قومي وفي الحياة، كل زفرة تعبًر عن أسف شديد، هل رأيت تلك الغابة؟، لقد أحرقوها قبل شهر، أتعرفي لماذا؟ لايمكنك أن تتصوري، لقد أحرقوها انتقاما من العصافير، ليفجعوها في صغارها وبيوضها وأعشاشها، يبدو الكلام شاعريا، أتعرفي لماذا؟ لأنها كانت تغرد في يوم موت كلب شيخ القرية!، الكلب عندهم حيوان مقدس، أنهم يعبدون الشمس، والكلب كما تقول الأسطورة كان أكبر بكثير مما هو عليه الآن، وكان متزوجا من الشمس، وكان عليه أن يدلك رجلها في بداية كل سنة قمرية، وعليه أن يمشط شعرها الذي حين يتدلّى على قرية يكون الليل، وكانا إلهين في ذلك الزمان يعبدهما الأجداد، كان لهما بيت في الجهة الأخرى للجبل، كهف صغيرمظلم، لم يدخله أحد، خوفا من أن تحل عليه اللعنة، هنالك أنجبا القمر ثم بقية الأجرام السماوية، المهم في ذلك اليوم شرب الكلب من الكروم الذي اعتصرته الشمس في الليلة السابقة لبداية السنة القمرية، سكر الكلب ولم يدلك رجلها، فغضبت وطارت إلى السماء، ولذلك يرفع الكلب ذيله إلى السماء، يحاول إرضاءها.
وفي اليوم الأول في كل سنة قمرية يقوم أهل القرية بتقديم قربان آدمي لتعود الشمس وأبنائها إلى حبيبها الذي تركته في الأرض، ليستريح من رفع زيله، كان لابد لي أن أقف ضد هذا الهراء، كنت أقول لهم :" اذا كانت للمرء حياة واحدة فلابد أن يعيش موحدا، وإلا فلا حياة له"، لم يقف بجواري أحد، حتى ابني تركني وسافر إلى سدوم، لإقامة( الوطن القومي للشواذ)، قلت له:" إذا كان اليهود قد سعوا إلى تأسيس وطن قومي يجمعهم بعد الدياسبورا، فهذا لا يعني أن تقلدوا الفكرة على هذا النحو، كما أنه لا توجد أية مقارنة بين الهيكل العظمي لامرأة لوط عليه السلام، والهيكل الذي يبحث عنه اليهود، هذه رعونة". لقد سمعتُ أن منظمات حقوق المرأة قد اعترضت على هجرة الرجال إلى سدوم، فمن حق المرأة إقامة علاقة طبيعية مع الرجل، لكن السدوميين أرادوا أن يثبتوا حسن نواياهم بالتنقيب عن الهيكل العظمي لامرأة سيدنا لوط عليه السلام، وإجراء عملية الاستنساخ عليه، وبناء تمثال لها تقديرا لجهودها في بث البهجة في أرض سدوم، وخدمة الإنسانية، وفي حالة العثور على الهيكل، فسيتم إجراء بعض العمليات على الحاسوب ووضع صورة تقريبية لها، وتأسيس لجنة لجائزة امرأة لوط، تمنح جائزة سنوية لفتاة تشبهها. قدري أن أرى وأسمع ما لايسرني، قاومت بالحسنى لكنهم قرروا أن يسلبوني الحياة، ولايعرفون أن الموت أمنيتي الشهية، إنني هنا منذ شهر كامل، على هذا الجذع، بالأمس وأنا أعاني الجوع والعطش، مروا بي من هنا راكضين إلى ضريح رجل يعتقدون أن له علاقة طيبة بالشمس، لقد رأوه قبل أن يموت بيوم واحد يقبّل كلبا فقالوا إن الكلب حمّله رسالة عاجلة إلى الشمس، ولذلك صعدت روحه إليها، وصادف أن كسفت الشمس في يوم وفاته، فقالوا إن الرسالة التي كان يحملها مضمخة بالتوسل والعتاب، هل تعرفي لماذا كانو ذاهبين إلى ضريح الرجل؟، ليتوسط لهم عند إلهتهم الشمس لتنزل لهم قطا سماويا، ليلتهم الفئران الزرقاء التي يهابونها، يالي من ثرثار، هاهم قادمون، أهربي، إن وجدوك سيقتلونك، أو يقدمونك قربانا.
قالت له:" وأنت ألا تهرب "؟، قال:" أنا؟، لابد أن ألبي النداء، سألته:" هل أنت الذي جأتني، وأخبرتني عن مكان السلاح؟"، قال:" نعم، ميل من هنا تقريبا، شرقا، مدفون أسفل شجرة مُعمَّرة فوق جبل، اذهبي، إن الذي جاء بك إليَّ، سيوصلك إلى هناك"، وسقطت عنه الرأس، صرخت وولَّتْ هاربة، لكن سرعان ما أحاط بها القوم من كل جانب، حتى الجبل رأته مزروعا بالرجال، أخذوها واتجهوا بها إلى الصحراء حيث تتجلّى الشمس في صورتها المثالية، وهنالك بنوا لها قفصا وقيّدوها، لتلقى حتفها بطريقة تراها الشمس مناسبة، كانت تقاوم الشمس بطأطأة الرأس، تحاول أن تحجب عينيها، حتى جاءها ثعبان والتف حول وجهها ليقيها حرارة الشمس، وحين تهب الرياح وتجلدها ذرات الرمل بكل قسوة كأنها ربيبة البشر، تتذكر أبناء شعبها الذين مص الاستبداد دمائهم، كان العطش شديدا، جف حلقها، وقالت في نفسها:" ليتهم تركوني في تلك الواحة التي تسكنها القردة، وبنت فيها مساكن من الطين"، وهبت العواصف الترابية وكادت أن تعميها، دفنتها الرياح حتى العنق، وأمضت ليلة كاملة تسمع فيها أصواتا مرعبة وضحكات، والرمال تصفعها بقوة حتى أصبح الصبح، وعند الظهيرة جاء الثعبان الذي كان يلتف على وجهها ليقيها حر الشمس، أدى دوره ببراعة حتى جاء العصر، كانت الفدائية العجوز قد فقدت الرغبة في النجاة، خارت آخر القوى التي كانت تملكها، وجهها الدامي قد صار ثقيلا لدرجة أنها ما عادت قادرة على احتماله، لكنها استطاعت أن ترى قافلة هناك، التفتت القافلة إليها عندما استجمعت الفدائية العجوز كل قوتها لتصرخ مستغيثة، لكن القافلة واصلت المسير، وحين ازداد الصراخ انفصلت عنهم الآذان وطارت كما الطيور، تكومت بالقرب منها، قالت بعد جهد :" لقد دفنونني هنا حية، النجدة ..."، وحين سكتت، طارت الآذان لتلحق بأصحابها، لكنها استجمعت قواها وقالت:" أرجو ..." توقفت الآذان عن الطيران نحو أصحابها، سمعت منها "أرجو"، وحين تأخرت عن النطق بما ترجوه، تقدمت قليلا، مما زاد في المسافة التي بينهم، وحين قالت:" ..أن توصلوا السلاح إلى أهلي"، توقفت الآذان حتي أكملت ما تريد قوله، وحين صمتت، طارت الآذان إلى أصحابها بسرعة جنونية حتي لحقت بالقافلة ولم يحدث أي تبدل في الآذان، عادت كل أذنين إلى صاحبهما بالضبط، وكان حادي الإبل يشدو، وهبت رياح عنيفة، وكانت النهاية".
قال لي الضابط:" إن هذه العجوز موجودة في الواقع، لقد مات ابنها تحت التعذيب في معتقلاتنا، ولذلك أخذت تؤسس تنظيما سريا يجمع كل الحاقدين على الأمن، وبالتالي القيام بعمل مسلح ضدنا، لقد كتب الخبراء عن قصتك ألف صفحة، وجدوا فيها إشارات إلى الوسائل التي ذكرها جين شارب في كتابه (من الدكتاتورية إلى الديمقراطية)، هذا في الجزء الأول، وفي الجزء الثاني إشارات واضحة تحرض على المقاومة المسلحة ضد طؤيقتنا في إدارة حياتكم، والتي تصفونها بالإحتلال، وهي كلمة حاقدة على الديمقراطية وعلى حكومتنا الرشيدة التي ضربت أروع الأمثلة في احترام حقوق الإنسان، هنالك جهات طلبت منا تسليمك لأنك من الأقلام التي تروج للإرهاب، وبما أنك عرفت كيف تصل إلى هذه العجوز، وتكتب قصتها، فمن الأفضل أن تخبرنا ببقية أفراد التنظيم، وهل صاحبة الصندوق معهم أم لا، أنت تقود تنظيما عالميا للإرهاب، وتظن أننا من الغباء بحيث نتيح لك المنابر الإعلامية لمراسلة أفراد التنظيم، بحجة أنك تكتب قصصا قصيرة، إن قصتك أيها الذكي تحمل نعيا لامرأة مطلوبة للعدالة، تسمي نفسها أم الشهيد، كل هذه الأشياء ستحدثنا عنها بعد أن تشرب معنا الشاي، تحبه بالكعك أم بالبقلاوة؟، يا جاويش! ".
-" أفندم ".
ظل صامدا
مصارع الثيران
لكنه سقط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.