أسس الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، في 2012 حزب حركة نداء تونس؛ سعيا لإحداث توازن سياسي مع حركة النهضة، التي كانت القوة السياسية الأكبر في تلك الفترة، ونجح نداء تونس في انتخابات 2014 في اقتناص 86 مقعدا في البرلمان، متقدما بفارق طفيف على النهضة، لكن، على عكس الانتظارات كوّن نداء تونس حكومة ائتلافية تضم الإسلاميين، ومن هنا بدأت خيبة الأمل الشعبية من نداء تونس تتشكّل. صراع الدساترة واليساريين ويضم الحزب مزيجا من الشخصيات اليسارية والمستقلة ومسؤولين من النظام السابق تجمعوا لمواجهة الإسلام السياسي بعد فوز النهضة في أول انتخابات بعد 2011، لكن بعد استقالة مؤسس الحزب الباجي قائد السبسي، إثر انتخابه رئيسا للبلاد، طفت على السطح خلافات حادة بين قيادات الحركة حول إعادة تنظيم الهياكل وحول بعض المسؤوليات الأولى وأيضا حول طموحات حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس، لتولي زعامة الحزب وفقا لمعارضيه. وظلّت الخلافات صامتة إلى أن تحولت يوم السبت الماضي، إلى شجار وتبادل للعنف بالعصي والهراوات في اجتماع للحزب بمدينة الحمامات (80 كم جنوب العاصمة تونس)، بين معسكر موال لحافظ قائد السبسي، وهو معكسر "الدساترة والتجمعيين" (نسبة إلى الحزب الاشتراكي الدستوري الذي أسسه الزعيم الحبيب بورقيبة في الثلاثينات من القرن الماضي، وأعضاء في حزب التجمع الدستوري الذي حكم في عهد زين العابدين بن علي)، الذي يسعى للعب دور أكبر في الحزب من خلال السعي لإعادة هيكلته، ومعسكر ثان يتزعمه محسن مرزوق، الأمين العام للحزب، ومعة غالبية نواب الحزب في البرلمان، وهو الجناح اليساري في الحزب المكون من النقابات المهنية التونسية. وانفجر الصراع داخل حزب نداء تونس، بوتيرة متسارعة وأصبح التجاذب بين أجنحته المختلفة معلنا بشكل يهدد بنية الحزب التنظيمية، وهو ما يكشف عن التركيبة غير المتجانسة التي تشكل منها هذا الكيان الحزبي، وبعيدا عن التفاصيل الجزئية للصراع، يمكن القول إن حالة التجاذب السياسي الحاد التي يعرفها هذا الحزب يمكن تفسيرها بجملة من العوامل الهيكلية التي تشق الحزب داخليا، وإذا كان من الطبيعي أن تعرف الأحزاب السياسية صراعا للأجنحة وتضاربا للمصالح وللتقديرات على مستوى التصورات والممارسات، فإن ما يجري في "نداء تونس" أعقد من أن يتم توصيفه باعتباره صراعا داخليا، يمكن حله بالعودة إلى القوانين الأساسية للحزب، وإنما هو صراع كيانات متحالفة ضمن إطار حزبي، جمعتها المصلحة وفرقتها الغنيمة. ويمكن القول إن ما يعرفه "نداء تونس" في اللحظة الراهنة من صراعات يجد جذوره في نمط تشكل هذا الكيان السياسي، باعتباره نتيجة تحالف بين روافد مختلفة، ذات مرجعيات متعددة، سواء الطرف اليساري والنقابي، أو القوى الدستورية المتحدرة من الحزب الحاكم ما قبل الثورة، بالإضافة إلى حضور قوي لرجال أعمال، لعبوا دور الممول للحزب، خدمة لمصالحهم، وكان الجامع المركزي لكل هذه الروافد السياسية يتمثل في مواجهة حكم الترويكا، والسعي إلى إطاحة حركة النهضة سياسيا، الأمر الذي أخفى مشهد الخلافات العميقة بين القوى المختلفة داخل "نداء تونس"، فمنذ الانتخابات، حضرت الخلافات في وجهات النظر حول قوائم المرشحين، وصولا إلى ميل الرافد اليساري إلى دعم مرشح رئاسي غير الباجي قائد السبسي رئيس الحزب، غير أن الفوز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية مثل لحظة فارقة في اندلاع معركة اقتسام الغنائم وافتكاك المواقع، سواء داخل الحكومة التي عبر الجناح الدستوري بوضوح عن استيائه من إقصاء عناصره الفاعلة عن تولي مواقع فيها، أو داخل الحزب الذي استأثر فيه الجناح اليساري بالهيئة التأسيسية التي تشكل القيادة الفعلية التي تدير شؤون الحزب، في انتظار انعقاد مؤتمر الحزب، حسبما يرى الكاتب التونسي سمير حمدي. الخوف من التوريث وحملت أزمة الحزب المعلنة والمتشعبة سمة صراع المصالح بين متنفذين ماليين وأجنحة سياسية غير متجانسة، في ظل حزب يفتقد، في ما يبدو، إلى آليات لحل النزاعات الداخلية وإدارة الصراع، ضمن أطر منضبطة، فهذا الحزب تأسس حول شخصية الباجي قائد السبسي، وجعل برامجه مرتهنة بإطاحة خصم سياسي، لم يتشكل بصورة طبيعية، فهو يفتقر إلى رابط فكري عام، يجمع منخرطيه، كما أنه لا يملك هياكل منتخبة، أو مرجعيات واضحة، يمكن الرجوع إليها، لحسم هذا الصراع، وهو أمر تجلى في التصريحات النارية لبعض قياداته التي حذرت من فكرة التوريث (توريث قيادة الحزب لنجل الباجي قائد السبسي). عودة النهضة ويرى عبادة الكافي، القيادي بنداء تونس، أن حركة النهضة قد تنقض على الأغلبية النيابية في البرلمان مستفيدة من الانقسامات التي تعصف بنداء تونس. وقال في تصريحات لصحيفة محلية، إن "الانقسام يعني ألا يكون النداء حزب الأغلبية في البرلمان بل حركة النهضة هي حزب الأغلبية… الكتلة النيابية انقسمت واليوم هي على وشك انقسام عضوي سيفرز نداء1 ونداء2". وذهب منذر بلحاج علي، القيادي في حزب نداء تونس، إلى حدّ اتهام حركة النهضة بالعمل، في الكواليس، على تأجيج الانقسام والمشاكل صلب النداء. ويقول المحلّل السياسي وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، إنّ "صراع النفوذ" الحاصل داخل "نداء تونس" هذه الأيام سيكون له تأثير جوهري في مقاليد السلطة إذا حصل انشقاق داخل الحركة. ويرى سعيّد أن ما يسمّيها قياديو "النداء" ب"المحاولات الانقلابية" داخل الحزب، سيكون لها ارتداد على المدى القريب، يتجاوز مداه أروقة "حزب الرئيس السبسي" ليطال مجلس نوّاب الشعب، حيث لن تبقى الكتل على حالها، ما يفسح المجال أمام حركة النهضة لتتصدّر المشهد البرلماني. وأضاف سعيّد: "ربّما تُفضي حركة التصحيح التي أعلن عنها أكثر من 60 نائبا إلى حصول انشقاق داخل الكتلة البرلمانية، وهو ما سيؤدّي بالضرورة إلى تصدّعها وانقسامها إلى أكثر من كتلة، وسيكون لذلك أثر على الأغلبية التي انبثقت عنها الحكومة". ويوضح سعيّد بقوله: "رغم أنّ ما يحدث داخل "النداء" هو صراع داخلي لأجنحة الحزب بهدف الاستئثار بقيادته ولا يتعلق بسياسة البلاد، لكن قد ينفجر الوضع في أي لحظة ويُحدث انقلاباً في موازين القوى تحت قبّة البرلمان". تأثر الحكومة من جانبه، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي، أنّ الأزمة الحادة داخل حزب "نداء تونس" لم تؤثر إلى الآن على نشاط الحكومة، مضيفا: "لكن إذا ما تطور الصراع، فإنّ ذلك سيحدث تحوّلا جذريا في المشهد السياسي، وسيزيد من اهتزاز صورة النداء باعتباره الحزب الحاكم"، حسب تعبيره. ورأى الجورشي أن تطوّر الأزمة سيؤثر سلبا على وزراء النداء في المرحلة القادمة ؛"لأنهم سينخرطون في الصراع، وهو ما سيجعل الجهد موزعا بين ما يجري داخل الحزب وبين العمل الحكومي"، وفق تقديره. خطر على الديمقراطية ويرى سياسيون إن تداعيات أزمة نداء تونس على الحكومة وعلى المشهد السياسي بصفة عامة تمثّل خطرا على التجربة الديمقراطية الناشئة، باعتبار أن الحزب يعد القوة الانتخابية الأولى التي راهن عليها التونسيون لمباشرة إصلاحات كبرى في تواصل مع المشروع الإصلاحي والحداثي الذي قادته دولة الاستقلال خلال الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.