فلوجستاد: الرأسمالية بلا قيود تشيِّد مجتمعًا مختلاًّ هناك من يقول إن الطبقة العاملة لا وجود لها.. وهذا يمثل أكذوبة فى إحدى نواصى أوسلو بدأ مجموعة من الشبان قراءة جزء كبير من جذور الشكوك التى يعيشها العالم اليوم قبل أن يقرأها أحد. كان ذلك منذ سبع سنوات، فى بيت من ثلاثة طوابق بمحاذاة القصر الملكى بالنرويج. يُفتح الباب وتنتشر رائحة القهوة فى مزيج من الروائح تمتزج مع البرد القطبى الذى يسيطر على الشارع. إنه بيت الأدب بأوسلو الذى يستقبل ضيوفه بهذه الطريقة. الآن، يجلس كجارتان فلوجستاد، أحد أهم الكتاب النرويجيين والأكثر مقروئية فى بلده، وصاحب رواية «مانيلا العظيمة» التى تعد ذاكرة ونبوءة أوروبا والعالم المعاصر. الساعة العاشرة صباحًا وهو فى منضدة الركن. ما من أحد هنا سواه وثلاثة جرسونات يتحركون فى المقهى صاحب الحضور الكبير رغم أنه حديث الإنشاء. يشكّل فلوجستاد (1944) جزءًا من مجموعة الكتاب النرويجيين الذين فاجأوا العالم برفعة جودتهم الأدبية والموضوعية، مع النقد المتأمِّل. مجموعة تعترف أن جوستين جادر، بروايته «عالم الأريكة» قد وضع الأدب النرويجى على خريطة الأدب العالمى. ورثة هنريك إبسن وكنوت هامسون يتميزون بحساسيتهم العالية لنقل الجمال والغموض والرهافة إلى عوالم صغيرة وحميمية ترتبط بالإنسان المعاصر، فى مزيج من الأصداء الشخصية والعامة والعكس. تعتبر «مانيلا العظيمة» جزءًا من هذا العالم، بالإضافة إلى قدرتها على تحقيق نبوءة الحاضر. عمل ينبض بذاكرة اجتماعية وسياسية وتاريخية وعاطفية، تتناول انهيارات القرنين الأخيرين فى ما يخص الحقوق التى اكتسبها العمال والطبقة الوسطى وأنهضت فردوسًا أمكن الآن أن نراه مستعارًا. فردوس اليوتوبيا الخالى الذى فككه فلوجستاد بهدوء وصواب. يقول فلوجستاد: «الرأسمالية بلا قيود تشيِّد مجتمعًا مختلًّا وظالمًا»، و«هناك من يقول إن الطبقة العاملة لا وجود لها، هذه أكذوبة، لقد نقلوها إلى العالم الثالث وهى الآن أكبر من أى وقت مضى، وهى فى أسوأ حالاتها، كما كانت فى القرن التاسع عشر؛ وينبغى أن تتمتع بالحقوق التى تمتعنا بها فى القرن العشرين»، و«الطبقة السياسية ليس لها أى اتصال بالعمال ولا بالمجتمع والناس تتفاعل قليلًا وسيئة التنظيم». كلها عبارات تدين وتطالب بحقوق وتحذِّر، لكن ذلك لا يمنعه من الأمل فى التغيير. فلوجستاد يعرف ما يقوله لأنه كان عاملًا فى مصنع أجنبى ببلده ويعرف ميلاد وتطور واحتضار دولة الرفاهية فى قارته. تعكس أعماله تحولات الرأسمالية التى تهيمن على بقية أوروبا. فى «مانيلا العظيمة» يتتبع خطوات الماضى النرويجى، تى يتقاطع مع انتقاله وإعفائه من مصيره العمالى بانتقاله من المصنع إلى الهند، نظرًا إلى تفكيك المركزية. رواية فلوجستاد مثل ماء شفاف لذاكرة تاريخ القرن العشرين والعالم الأدبى والأيديولوجى والعاطفى للمؤلف. «القرن الماضى كان قرن الحركة العمالية، والتضامن العملى، وهذا ما شكّلنى كإنسان. الآن نعيش فى نوع آخر من المجتمع»، و«كل شىء انفجر مع تصدير اليد العاملة والمنتجات للعالم الثالث. أوسلو كانت مدينة صناعية ولم يبقَ منها شىء. وهكذا كانت مدن غربية كثيرة، والمؤسسات حملت كل شىء إلى العالم الثالث باستثناء حقوق العمال المكتسبة». هذا التحول فى المصائر وقواعد اللعبة المختلفة فى العالم الأول والدول النامية أحد أكثر المظاهر نقدًا فى الرواية. نفس المؤسسات، ونفس الأهداف، لكن فى بلدان مختلفة، وتعامل مختلف مع البشر. «مانيلا العظيمة» تضم مقطعًا كاشفًا: «قال كارل ماركس إن الثورات هى محرك التاريخ العالمى، وأضاف والتر بنجامين أن المحرك قد يكون القبض على فرامل الطوارئ». يحرك فلوجستاد رقبته وتسود غمامة حزن فى عينيه: «نحن فى زمن بنجامين. فى الأفق ما من مشروع ثورى ممكن. ما يحدث هو الدفاع عن حقوق مكتسبة خلال قرنين من النضال». «... لا أعرف ما سيحدث. هذا سؤال كبير جدًّا بالنسبة إلىّ. فقط يمكننى أن أخمن». «ما أراه واضحًا أن النظام يعمل بشكل سيئ. ينقصه حركة عمالية قوية تصنع توازنًا مع الرأسمالية». هَمّ فلوجستاد الاجتماعى يبدو جليًّا فى أعمال تصور الواقع وتحاول شرح الثورة التى عاشها وتعيشها النرويج، بلد مكون من 4.5 مليون نسمة ذات أصول عمالية وصناعية تعرف الحرية الحقيقية والاستقلال منذ فترة قريبة (كانت النرويج مستعمرة دنماركية وسويدية...)، وفى نفس الوقت تواجه تغيرًا كبيرًا كلما زادت ثروتها بفضل الغاز والبترول، وبعيدًا عن رجفات العالم الأول لأنها فى الاتحاد الأوروبى لكنها ليست من دول اليورو. «تحمّس الساسة للدخول فى العملة الموحدة، لكن الناس صوتت بالرفض». «نحن بلد متضامن لماضيه وهذا لا يتعارض مع رفضنا لليورو، ربما رأى الناس أن أوروبا لها قوانين تدعم الرأسمالية بإفراط، ولا يمكن تجنب إعادة تشييد المجتمع باشتراكية معتدلة». طالب، عامل، قارئ، بحار، شاعر، روائى. محطات مختلفة توقف فيها فلوجستاد خلال أعوامه التسعة والستين. فى 45 منها كان كاتبًا مع صدور ديوانه «اغتراب» عام 68. بعدها سافر فى مركب لأمريكا اللاتينية، ركبه شاعرًا وهبط منه روائيًّا. تأكد ميله الأدبى عند قراءته إلى مجموعة من الكتاب الذين أسروه لوقت طويل: بورخس، ماركيز، كورتاثر، أرلت، يوسا، نيرودا.. وهذا الأخير ترجمه إلى اللغة النرويجية. بعد سنوات عاد إلى النرويج وواصل الكتابة ليحكى التغيرات الاجتماعية بمقدار ما كسب قراءً جددًا. وفى عام 1977 فاز بجائزة المجلس النرويجى الأدبى عن رواية «طريق الدولار». فى «مانيلا العظيمة»، هذه الحكاية الجديدة التى تتناول جذور البشرية وأحلامها، إخفاقاتها ومثابرتها ومخاوفها، صنع لنفسه مكانًا يتسق مع شعبه. رواية تمثل الخضوع واليوتوبيا السرية: أبواه استطاعا فقط أن يعلِّما أخاه الأكبر، بينما كان عليه الرضا بالعمل فى مصنع، ارتبط به ليعيش.