عندما يستحكم الفشل يبدأ العقل في إفراز هرمون المؤامرة. شعور الفاشل بأن هناك مؤامرة تحاك ضده يهون عليه مرارة خيبته ويفسر له تراكم المصائب على كتفيه بوجود شرير لا يريد له الخير، فيتوقف عقله بتأثير ذلك الهرمون السحري المخدر عن التدقيق في مدى ما يتحمله هو من مسؤولية عن فشله كأول خطوة ضرورية على طريق بحثه عن الحل. في بلادنا المنهارة تعليميًّا ينسج الطلبة الأساطير في سنوات دراستهم الجامعية حول الدكاترة الأشرار الذين يحطمون آمالهم في التفوق باختباراتهم الشفوية المتعنتة الممتلئة بطلاسم لا يفهمونها. فقط لأنهم يستعذبون الشر ويستمتعون بتوزيع الأذى على تلاميذهم المساكين الذين قاموا بكل ما عليهم من واجبات! لكن بعض أولئك الطلبة قد يفهم في سنوات النضج أن الأمر لم يكن أكثر من اختلاف بينه وبين أساتذته في طريقة تقييمهم لمدى فهمه للمواد الدراسية، وأنه اختلاف يحدث بطريقة طبيعية لا تحركها شبهة مؤامرة نظرًا للتباين في نظرة الأساتذة والطلاب إلى نفس الأمور من زاويتين مختلفتين. الزاوية الأولى من عين طالب مظلوم نشأ في ظروف تعليمية بالغة الرداءة، والثانية من عين مدرس باحث ربما حصل على الدكتوراة من جامعة أوروبية عريقة تعلم فيها كيف يتناول الأمور بطريقة منهجية غير مسطحة. انظر من فضلك إلى قضية موافقة أكثر من دولة أوروبية على قبول المهاجرين السوريين كلاجئين إلى بلادهم والتي حولها البعض إلى مؤامرة تدبرها قوى الشر في العالم الغربي المتقدم لكي تتيح الفرصة لإسرائيل لضم سوريا بعد تفريغها من السكان! بذمتكم ألا ترون معي أن هذه القضية تصلح كنموذج دراسي مثالي لتبرير الخيبة؟ العدو الشرس الذي طرد اللاجئين أتى من بين صفوفنا ولم يخلقه الغرب من العدم حتى وإن قام بتسليحة برغبة دول خليجية وبأموالها. الأفكار السلفية المفرطة في التخلف التي تحرك ذلك العدو لم يصنعها الغرب ولكنها ترعرعت في ظل الديكتاتوريات العسكرية ضيقة الأفق التي تحكم مجتمعاتنا وتعمل لصالح طبقة من السادة وليس لأجل حدوث تنمية مستدامة ترفع مستويات التعليم والوعي الجمعي الذي يضيق الخناق على تلك الأفكار الماضوية الرجعية ويوقف تكاثرها. هناك أسئلة لا حصر لها. ماذا فعلنا نحن للهاربين من جحيم القتال اليومي والقتل العشوائي؟ لا شيء. ما هو حجم أولئك المهاجرين بالنسبة لحجم السكان في المناطق المنكوبة؟ أنت لا تعرف بالطبع ولكنك تفتي بأنه تفريغ للسكان. ما هو حجم العبء على الدول الأوروبية المضيفة التي يعاني بعضها من البطالة؟ وما هي المكاسب التي ستعود عليها بافتراض قيامها بدور في مؤامرة تديرها الصهيونية العالمية؟ ما هو الوضع القانوني للمناطق الخالية من السكان بافتراض حدوث تفريغ كامل لها وهو أمر مستحيل لم يحدث في دولة صغيرة كفلسطين فكيف يحدث في دولة بحجم سوريا؟ ما هو موقف الأممالمتحدة من تطبيق البند السابع من ميثاقها ضد محاولة دولة معتدية ضم أراض لدولة أخرى؟ ألم نهلل منذ سنوات كعرب وكمسلمين لقصف طائرات التحالف الدولي لجيش ميلوسوفيتش الصربي لإنقاذ مسلمي البوسنة الذين تم منحهم حق تقرير المصير وإنشاء دولة البوسنة؟ لماذا تتوقع إذن أن يتم التغاضى عن احتلال إسرائيل لسوريا بعد تفريغها، المستحيل، من السكان؟ حسنًا، ليكن المستمع عاقلًا. ماذا سنفعل نحن وقتها؟ أين دورنا كشعوب عربية لها جيوش وحكومات؟ لا شيء. أثرياؤنا لا يسعون فقط إلا للزواج من السوريات الجميلات بدعوى إنقاذهم من جحيم الحرب كما فعلوا مع البوسنيات الحسناوات من قبلهن! عزيزي أنت أسوأ مما تتصور. المجتمع المدني الأوروبي الذي ينشط إيجابيًا في واقع إنساني مؤلم صنعناه نحن بتفريطنا وجهلنا لا يصح أن نستخف دمنا وعقولنا هكذا ونصفه بالتآمر العنصري حتى ولو كانت سياسات بعض الحكومات الأوروبية تشوبها العنصرية. كيف نتساهل مع عنصرية التيارات الماضوية المنغلقة التي اعتدنا على تصديرها لتستوطن بلادهم وترفض الاندماج في مجتمعاتهم وترفع لواء الجهاد لأسلمة بلادهم الكافرة ثم نرفض بعد ذلك فهم دوافع ظاهرة العنصرية المضادة التي يتبناها بعض أبناء الغرب؟ المسألة أعقد بكثير من استسهال فكرة أن الآخر شرير وأنا طيب. المهاجرون إلى الغرب تسببت فرِقِكَ الإسلامية السلفية المتصارعة في وجودهم ولم تفتح مجتمعاتك العربية أذرعها لتحتضنهم، ومن العار أن يكون أفضل ما ينتجه عقلك الجمعي هو إفراز هورمون المؤامرة. إسرائيل الكبرى بلا شك تمثل حلمًا للصهاينة والتلموديين المتشددين ولكن المفارقة أنهم يشبهون تمامًا للسلفيين المسلمين لدينا الذين يحلمون بدولة الخلافة الإسلامية الكبرى واستعادة الأندلس من جديد! كلاهما يحلم بالتوسع على أرض الغير ويفكر في إمبراطورية عنصرية دينية عظمى يثبت له الواقع كل يوم استحالة تحقيقها. أطرف ما في نظرية تفريغ سوريا الوهمية هي العبارة التي تم تشييرها على فيسبوك آلاف المرات كنصيحة موجهة للمهاجرين السوريين.. "عودوا لدياركم ولا تسمحوا لهم بتنفيذ المؤامرة"! هذه عبارة يطلقها أشخاص يصيبهم الفزع ويبولون في فراشهم إذا سقط بُمب العيد بجوار شرفاتهم! ويتم توجيهها ببساطة لأسر لا سقف لها تحاصرها براميل بشار المتفجرة الساقطة من الجو، وسيوف الدواعش الذين يقطعون رؤوسهم ويغتصبون نساءهم على البر! السخرية المريرة في موضوع المؤامرات تكمن في أن خوفك من الكلب قد يدفعه لكي يعقرك رغم أنه لم يخطط لهذا في بداية الأمر! هذه هي خطورة أن يعتاد عقلك على إفراز هرمون المؤامرة بدلًا من اعترافك بشجاعة بمسؤوليتك عن الفشل والبدء في البحث عن حلول ممكنة.