قبل أي شيء فأنا أكتب هذا المقال متمنيًا أن تنجح الدولة في الوصول إلى حل سريع وحاسم لظاهرة السادة أمناء الشرطة تفاديًا لأن يتصدى لها شعب مصر كله مرة ثانية بالثمن الغالي وفي يوم غضب، وهو مصير محتوم لا نريده أبدًا في هذه الظروف وإن كنت أراه آت لا محالة ما لم تنجح الدولة في تفاديه. لقد قدم هؤلاء السادة بالتعاون مع أجهزة الدولة النموذج الأعظم والدليل القاطع على أن مصر لا تعرف مبدأ سيادة القانون، كيف أصف ذلك؟ رجال مهمتهم تطبيق القانون يخالفون ذات القانون الذي يطبقونه على غيرهم في الشارع، ثم لا يمر الأمر مرور الكرام فحسب، بل ويتم إرضاؤهم واسترضائهم أيضًا. وليست هذه هي الرسالة الأولى بل هي الرسالة الأخيرة التي كانت مسك الختام بعد عدة رسائل مفزعة مقذعة من حوادث اعتداء على البشر في الشوارع ووسائل المواصلات العامة، وصلت أحيانًا إلى حد القتل بالرصاص فيما لا يمكنني أبدًا أن أصفه بأنه مجرد وقائع فردية بل تتعدى ذلك إلى مستوى الظاهرة العامة التي لا أرى من مؤشراتها كافة سوى أنه في طريقها لمزيد من التفاقم والاستفحال. نعم سوف هناك ضحايا قادمون وانتهاكات قادمة. ما هي ترجمة هيبة الدولة في عقول المسئولين عنها؟ لن أناقش أبدًا مدى مشروعية مطالبهم تلك، بل وأقر صراحة أن ذلك لا يعنيني على الإطلاق والسبب بسيط للغاية وهو إن هؤلاء هم الفئة الوحيدة التي لها الحق في المطالبة بحقوق من الأساس أيا كانت وباستخدام وسائل التظاهر والاحتجاج والاعتصام التي أصبحت جميعها تشكل جرائم جنائية، ولو كانت أية فئة أخرى قد اعتمدت وسائلهم ذاتها لكانوا قد تعرضوا لما هو ليس أقل أبدًا من الفرم والطحن في عرض الطريق ثم السجن لسنوات وسنوات. من هنا فأنا حقًا لا أبالي بما يطلبون، والمسألة ليست انحيازًا لأحد أو معاداة لأحد، ولكنها ببساطة خوف على مستقبل هذه الدولة بل وكيانها ذاته، وهو الأمر الأعمق والأبعد. لا أريد أن أرى التاريخ يكرر نفسه، ولا أريد أن أرى ظاهرة تنكيل من رجال الداخلية تكون الدولة فيها في الحد الأدني هي الطرف الأضعف المضطر خصوصًا في ظل حقيقة أن فتاة شابة مثل الصحفية إسراء الطويل هي من تتلقى العقوبات ويرزح في الحبس ويثقل ضمير كل من له ضمير غير مصدق أن فتاة شابة صحفية تسير على عكازين تمثل تهديدًا لأمن مصر، بينما يتم تصوير هؤلاء يوميا تقريبا في الشوارع صوتا وصورة وهم طايحين في الناس ضربًا وتنكيلًا بل وقتلًا في بعض الأحيان وينتهي الأمر بينهم وبين الدولة على النحو الذي انتهى عليه. قلق شديد يدفعني لدق نواقيس الخطر، أن الأجهزه التي تكيل بمكيالين لن يكتب لها النجاح والاستمرار. ثم نسمع في كل مكان كل التبريرات المعتادة التي يسوقها البعض لما نلمسه من تقييد للألسنة وتطويق لحرية الرأي وتبريرات لبعض انتهاكات حقوق الإنسان، بل وإن الديمقراطية من بابه لا تصلح لمصر. وكل تلك التبريرات تدور حول فزاعة الإخوان الجديدة القديمة من دقة المرحلة وعظم التحديات وفداحة الخطر ما يدعونا جميعًا للالتفاف والوحدة والصبر والثبات، لأن لمس العيوب أو وضع اليد عليها أو لفت النظر وتوجيه سهام النقد إليها كلها أمور تعد بالنظر "للمرحلة الدقيقة من عمر الوطن" ويا لها من جملة مكررة علة مدار عشرات السنوات، كلها تعد خروجا عن الاصطفاف الوطني يصل لمستوى الخيانة العظمى ويستحق صاحبه النقد بل والإهانة والشتيمة والتهييف، سمها كيف شئت. ولا يبدو أن كل معاني الاصطفاف الوطني تحظى بذات الأهمية والحساسية عندما يتعلق الأمر بأمناء الشرطة، وعندما يتعلق الأمر بتطبيق مبدأ دستوريًا ساسيًا هو أن المصريين جميعًا سواء أمام القانون، فلا يبدو أن هذا المبدأ هو صمام الأمان الواجب في مواجهة "عظم التحديات"و"دقة المرحلة"، ولا يبدو لي أن استبداله بمبدأ الكيل بمكيالين هو الحل الذي يفيد مصر.. والسؤال يبقى كيف يمكن للمصري العادي أن يعيش مطمئنًا أن كرامته لن تتعرض للإهانه وإنسانيته لن تتعرض للانتهاك؟ بل وكيف يمكن أن تنهض هذه الأمة على أكتافه؟ لا بد من وقفه واترك مهمة الإجابة على هذه الأسئلة مفتوحة أمام أعين المسئولين عن حكم هذا البلد.