كتب- طارق الشناوي: عندما وقعت عين المخرج الكبير صاحب تحفة "المومياء" شادي عبد السلام عليها قبل قرابة أربعة عقود من الزمان، عندما كان بصدد الإعداد لفيلمه الروائي الثاني "إخناتون"، هل كانت ملامح سوسن الفرعونية هي ما استوقف عين شادي، فقرر أن تُصبح هي "نفرتيتي"؟ ربما كان ذلك صحيحاً، هذه هي ما يطلقون عليها الطلة الأولى، التي تفتح فقط الباب، وتشير إلى أول الطريق، إلا أن هذا مع الزمن لا يكفي، سيذوب الانطباع الأول مع مرور الأيام في لحظات ويبقى ما هو كامن وراء تلك القسمات التي استحوذت علينا ، لنكتشف هل تعبر عن حقيقية راسخة أم زيف سرعان ما يتبدد ، الانطباعات الأولى على عكس ما يطلقون عليها ، فهي في المجال الفني كثيرا ما تتبدد. سوسن بدر فتاة لم تصل بعد في تلك السنوات إلى العشرينات من عمرها تحمل جمالاً مصرياً خالصاً يشي بوضوح وبما لا يدع أي مجالاً للشك بأنها قد جاءت من الجنوب ب "جينات " فرعونية خالصة ، فكانت تلك هو جواز مرورها المبدئي ، ولكن المؤكد أن شادي في الأختبارات الأولي وجد ما هو أبعد وأعمق من كل ذلك. ورحل شادي عن عالمنا بعدها بسنوات بعد أن أجهضوا حلمه، رحل معه مشروع فني استثنائي في تاريخنا السينمائي، بعد أن رفض شادي أن يقبل تمويل أجنبي لإخناتون، أراده مثل "المومياء" مصرياً وفقط، "المومياء" لم يكن فقط فيلماً حقق نجاحاً ملفتاً جعله محط أنظار شركات إنتاج خارج الحدود ولكنه كان ولا يزال أحد أهم العناوين المصرية بل والعربية في العالم كله ، العديد من المهرجانات تعيد عرض الفيلم عندما تبحث عن سينما مصرية لها خصوصية . كانت سوسن تتأمل أستاذها في مواقفه في الحياة وليس فقط أفلامه، تكتشف بعدها أن الإنسان والفنان وجهان لعملة واحدة، فكان هذا واحداً من أهم الدروس التي تعلمتها سوسن وهي أن تُضحي بأي حلم طالما كان مشروطاً بتنازل ما، ربما لم يكن شادي على صواب في أن التمويل الأجنبي للفيلم يعني بالضرورة تراجعاً عن حلم ، ولكن تلك كانت قناعاته، ولم يتبق من مشروع "إخناتون" إلا بقايا صور ل "نفرتيتي"، دور لم تؤده ولكنها خلعت مع الأيام تاج الملكة وأبقت على الفنانة التي واصلت مشوارها، بدأب وإصرار وتفاني، وظلت حتى هذه اللحظة تحمل بداخلها مخزوناً يكفيها العمر كله من أستاذها الأهم والأروع شادي عبد السلام. بين الحين والآخر تستعيد سوسن كلمات الأستاذ الذي كان بيته جامعة ترى فيها الكبار وهم يشاغبون الحياة ، وكل منهم لديه إبداعه ولديه أيضاً قناعاته وأفكاره وهكذا تعلمت أن تستمع، لكل هؤلاء، لا تتكلم في حضورهم ولكنها تتأمل أفكارهم لتنضج من خلال تلك الجامعة المفتوحة، التي كانت بطبعها تتسع لكل الأفكار مما أدى إلى أن تلك الفتاة الصغيرة تعتنق مبدأ التعددية، حيث أن من حق كل الأفكار أن تنطلق، وغادرت بيت الأستاذ المعلم لتظل تسكنها مبادئه. لا تنسى سوسن أبداً من منحها دفعة في بداية المشوار هناك من أشار عليها واختصر الطريق وكانت لديهم نظرة ثاقبة وهؤلاء لهم بصمات لا تُمحى، وأخذ بيدها في مرحلة مواكبة لشادي ،كان نور الشريف الذي غادرنا قبل أسابيع قلائل ، فهو له دائماً مكانة الأستاذ ، كان في طليعة من ساندوها مبكراً وهي لا تزال طالبة في معهد المسرح، هؤلاء الذين اكتشفوا وهجاً خاصاً وإشعاعاً داخلياً قابلاً للتوهج، كانت لا تزال تتحسس الخطوة الأولى فقدمها نور الشريف للمخرج حسين كمال ليصبح "حبيبي دائما" نقطة انطلاق تختصر أمامها سنوات، تعلمت من نور أن الفنان يجب أن يقف ورائه مخزون ثقافي، وأصبحت قراءة الكتاب واحدة من أهم طقوسها اليومية، فهو حبيبها دائماً، منحها هذا الفيلم دفعة انطلاق في بداية المشوار الذي رأيناه مرصعاً بالعديد من الأعمال الفنية وفي كل المجالات سينما مسرح تليفزيون إذاعة، دائماً تحمل سوسن ومضة ساحرة، تُجبر الجميع على الإنصات إليها ، إنها القدرة على أن تمنح الشخصية الدرامية لمحة خاصة، فهي لا تبحث عن أداء عام صاخب للتعبير ، بقدر ما هو نغمة هامسة خاصة ترشق مباشرة في القلوب. تعودت وهي في تلك المرحلة أن تتعلم كيف تُنصت أكثر مما تتكلم، تستقبل أكثر مما تُرسل، وهكذا رأينا على خريطتها الإبداعية أسماء عديدة تدين لها سوسن بالفضل مثل المخرجة إنعام محمد على، التي استقبلتها وهي مجرد وجه جديد فوجهتها وعلمتها ولم تكتف فقط بأن تمنحها دور في عمل فني ولكن قدمت لها منهج عام متكامل تحاول أن تحاكيه ، صعدت بها في لحظة من ممثلة تؤدي مشهد أو أثنين إلى بطلة اسمها يتصدر "التترات " ، لم تكتف إنعام فقط بمنحها البطولة ولكن قدمت لها السر في الإبداع وهو التحدي ، كثيرا ما قالت لها سوسن لن أستطيع سأفشل وكثيرا ما أكدت لها إنعام بل ستنجحين ، أنه التحدي الذي هو الوقود لإشعال الإبداع ، الرائع صلاح جاهين الذي أدخلها إلى محرابه الدافئ الثري الذي يُشع فكراً والمرصع بخفة ظل وألمعية لا تمحوها الأيام ، سعاد حسني التي كانت بمثابة درساً عملياً لها وجامعة مفتوحة تتعلم منها كيف أن الممثل في لحظات عليه أن يُصبح هو الشخصية الدرامية، فهو لا يمثل أو يتمثل الشخصية ولكنه يُصبح هو الشخصية التي نراها أمامنا ، سعاد خلف الكاميرا هي سعاد وفقط ولكنها أمامها هي بالضبط الشخصية ، تتلبسها كل التفاصيل ، علمتها فاتن حمامة الانضباط في المواعيد، والتواضع في التعامل مع الآخرين ومع المهنة ، مهما تقدمت الصفوف فأنت لا تزال تلميذا . علمها أشرف فهمي أن الفنان عليه أن ينسى أحزانه على باب الاستوديو، وإلا فإنه سيبدأ سلم الهبوط ولا أحد يرحم الفاشلين أو يمنحهم فرصة ثانية ولن يعذرها أحد مهما قالوا أن الاخفاق سببه عوامل خارجية ، ستتحمل هي النتائج ،تفاعلت بداخلها كل هذه الأفكار لنجد أمامنا فنانة تبدو في لحظات توهجها أمام الكاميرا وكأنها خلاصة فن أداء الممثل على الساحة العربية . أتذكر أن عدداً من المخرجين العرب جمعتنا أثناء تناول الغذاء جلسة في مهرجان دمشق السينمائي وذلك قبل نحو عشر سنوات، وعلى الفور نشطت بداخلي حاسة الصحفي، وسألتهم من هي الممثلة السينمائية العربية الأولى، كلهم أجمعوا على أنها سوسن بدر، لم يكن الحديث للنشر ولهذا احتفظت بالأسماء، ولكن تبقى الدلالة وهى أنهم وجدوا في سوسن قدرة استثنائية، رغم أن كل منهم يُطل بزاوية مختلفة على الفن السينمائي وعلي مفتاح قراءة فن أداء الممثل ، بحكم تعدد جنسياتهم. "الحلو ما يكملش" مقولة صحيحة ولكن أحياناً يكتمل الجمال في عدم اكتماله، لا تتعامل سوسن مع الفن بعقل يقظ يرسم ويخطط ويحدد الخطوة القادمة، ولكنها وبنسبة كبيرة تترك نفسها لرياح الفن وموجاته الهادرة تدفعها هنا أو هناك، ربما لا تدقق كثيراً في التعامل مع المخرجين ومن الممكن أن تتحمس لمخرج تعتقد أنه موهوب فتكتشف أثناء تنفيذ العمل الفني أنه موهوم، لا يضيف إليها شيئاً بل ربما يأخذ منها الكثير، فهو يحتاج لاسمها حتى يتكئ عليها لإستكمال مشروعه، إنها تبدو لي في لحظات نموذجاً صارخاً لفنان عميق الموهبة إلا أنه لا يمتلك في بعض الأحيان "ترمومتر" الاختيار، ويترك رياح الفن تعصف به هنا أو هناك ، بدون أن يُمسك بيديه المجداف ويوجه الشراع ، ورغم ذلك فإنك عندما تتأمل الحصيلة بحلوها الذي لا يخلو من مرارة ومرها الذي تتذوق فيه أيضا قدر من الحلاوة، تجد نفسك في النهاية أمام فنانة نادرة في موهبتها حتى لو بددت جزء منها في أعمال فنية لا ترقى إلى ما تملكه حقيقة من موهبة، إلا أن ما أنجزته وما ينتظرها يستحق التكريم وقبل ذلك التأمل، هذا النوع من الفنانين الذين تتعدد بداخلهم أنغام الأداء ربما لو كان العقل فقط هو الذي يحدد ويختار لضاع الكثير ولكن لديها نداء داخلي بين الحين والآخر تُنصت إليه وتنفذ ما يمليه عليها، سوسن في النهاية لا تحمل غضباً ضد أحد إنها تتسامح حتى مع تلك التجارب التي أُطل عليها من منظوري الشخصي فأجدها لا تضيف إليها ،ربما كانت من منظور آخر أكثر رحابة تضع رتوشاً على الصورة لكي تُكمل في النهاية ملامح البورتريه ، بعض الظلال هي التي تمنح اللوحة الحياة . الجوائز التي تحصل عليها متعددة ،والتكريم الذي كثيراً ما تناله ليس جديداً عليها ولكن يظل بالتأكيد تكريمها من مهرجان "الإسكندرية "له سحر خاص، قبل ثلاثة أعوام وفي ختام مهرجان "أبو ظبي " حصلت سوسن على جائزة إنجاز العمر.. وكنت حاضراً تلك الدورة قبل أن يتم إلغاء المهرجان منذ بضعة أشهر، تداعيات العنوان "إنجاز العمر" بالتأكيد لا تجد فيها ملامح سوسن، فهي لا تزال أمامها سنوات قادمة من العمر للإنجاز، بل أنا أرى أن القادم لسوسن هو ولاشك الأفضل، بينما مثلاً كانت الفنانة الإيطالية الكبيرة كلوديا كاردينالي شريكتها في الجائزة ينطبق عليها تماماً تعبير إنجاز العمر الذي يوحي بخفوت الضوء وباقتراب إسدال الستار، لأن الإنجاز يعني أن صفحات الكتاب قد اكتملت أو على أقل تقدير في طريقها للوصول إلى الغلاف الأخير، بينما سوسن لا يزال أمامها متسع من الصفحات لم تكتبها بعد، وربما جاء تكريم مهرجان الإسكندرية وهو يحمل في جانب منه إحساس مزدوج يعني التقدير على الإنجاز المشوب في نفس الوقت بانتظار ما هو قادم. سوسن من الفنانات القلائل اللاتي لا تغضبهن كلمات النقد، وكثيراً ما كان بيننا مجادلات وأراء متعددة حول اختياراتها الفنية، بسبب تلك الغزارة الزائدة عن الحد ووصفتها مرة بأنها لها ثمانية أرواح، وقلت: "القطة لها سبع أرواح.. أما سوسن بدر فلها دائماً مع كل إطلالة رمضانية ثمانية أرواح أقصد "أدوار".. هل من الممكن أن يتحمل المشاهد رؤية ممثل مهما بلغت موهبته في ثمانية مسلسلات مختلفة.. هل يملك أي ممثل مهما بلغت إمكانياته القدرة على التقمص الوجداني لكل هذا العدد من الشخصيات وفي فترة زمنية محددة جداً.. المؤكد أن سوسن كان عليها أن تصور ستة أعمال على الأقل من بين الثمانية المعروضة لها سنويا في نفس الوقت و عليها أن تخرج من شخصية لتلحق بأخرى.. فهل تستطيع أن تُمسك بتفاصيل كل منها على المستوى الشكلي والنفسي؟!" الممثل ليس مثل الحرفي النجار أو الحداد أو المكوجي مع كل الاحترام لأصحاب هذه المهن.. البعض يعتقد أن لحظة الوقوف أمام الكاميرا هي فقط زمن التمثيل مثل لحظة الوقوف أمام المكواة ووضعها على القميص هي فقط زمن الكي!! الممثل ينبغي أن يتعايش مع الدور قبل وبعد لحظات الوقوف أمام الكاميرا.. وقد يحدث بسبب تلك المعايشة نوع من التوحد، هذه الحالة مثلاً كنا نرى عليها أحمد زكي إلى درجة أنه عانى كثيرا من مشكلات صحية في الأمعاء أثناء أدائه لدوره في فيلم "زوجة رجل مهم" ،وقال له الطبيب أنه قد حدث تعايش مع الشخصية أدى إلى معاناته الصحية لتتوافق مع معاناة الشخصية الدرامية. سوسن فنانة حقيقية لا أتصورها من هؤلاء الصنايعية أصحاب "الزراير" تضغط عليها وتتحرك وفقاً لآلية محددة تقدم "الشويتين" اللي تعرفهم وكأنها شخصيات سابقة التجهيز الدرامي لتنتقل من دور إلى أخر ، إنها فنانة تتعايش مع الشخصيات ولكن ينقصها العقل المنظم الذي يضعها في مكانة تستحقها.. ويبدو لي أن سوسن بدر من الفنانين الذين يخشون الزمن القادم.. هي بالتأكيد عايشت عدد من الزملاء وعندما يمضي بهم قطار العمر يتضاءل تواجدهم عبر الشاشة.. ربما رأت هذا المصير على وجوه بعض كبار الزملاء ولهذا تعيش اليوم وهي تخاف الغد فتوافق على كل الأدوار التي تعرض عليها.. أرى أن مأزق سوسن هو أنها لا تملك فن إدارة الموهبة ،مثلاً قدمت دوراً لا ينسى في فيلمها "الأبواب المغلقة" قبل نحو 14 عاماً وهو من المرات القليلة التي طرقت فيها البطولة بابها على شاشة السينما، ولكنها وكالعادة لم تعرف كيف تحافظ عليها ولهذا تجدها تشارك في أدوار أخرى لا تمنحها أبداً القدرة على الاشتعال الفني.. هل حقاً سوسن لها ثمانية أرواح؟ لا أتصورها كذلك فهي فنانة مبدعة يكفيها دور واحد وروح واحدة تتقمصها لتعيش كأنها تقدم ثمانية أدوار أقصد أرواح!! أتذكر بعد هذا المقال أني تلقيت تليفون من سوسن قالت لي أنها توافق على أشياء وتتحفظ على أشياء ،وسوف توضح لي عندما نلتقي تفاصيل تجعل الفنان يقبل على مسلسل أو الفيلم ، عندما يجد أن المشروع كله من الممكن أن يتوقف لو لم يشارك فيه، لم أقتنع بجزء مما قالته سوسن بدر، وهي على المقابل لم تقتنع بجزء مما ذكرته. اكتشفت مثلاً أنه برغم كل النجاح الذي حققه "الأبواب المغلقة" لم تأت لها بطولة سينمائية بعدها، فهل كان عليها أن تنتظر في بيتها حتى يأتي من يطرق الباب، فكان ينبغي أن تنزل للميدان. في كل دور تقدمه سوسن ملمح ما، رتوش خاصة تكمل البورتريه، والمؤكد أنها حتى رغم تلك الرتوش كانت وستظل فنانة استثنائية، صنعت البطولة سواء كان اسمها على الشاشة أو في التترات متصدراً الجميع أو جاء لا حقاً للجميع . لقد طلبوا يوماً من نابليون أن يغير من موقعه على المائدة حتى يتصدرها ويأتي هو في المقدمة، فأجابهم قائلاً أن المقدمة حيث يجلس نابليون، والمقدمة أيضاً حيث يوضع اسم سوسن بدر. جاءت لتملأ حياتنا فناً وإبداعاً، دائماً هي الملكة التي تصنع الضوء ولا تجد بأساً في أن تمنحه للآخرين، تسرقها الكاميرا ولا تسرق هي الكاميرا. أجمل الأيام لم تأت بعد وأجمل الأدوار التي تنتظر سوسن لم تأت بعد، فلا نزال ننتظر الكثير من السحر الذي تمنحه لنا ملكة القلوب السمراء القادمة الجنوب !!