فى عام 1982 أشهر المفكر الفرنسى الراحل روجيه جارودى إسلامه وغيّر اسمه إلى رجاء جارودى، فاحتفينا به، وبشجاعته، وبآرائه التى وصفناها بالعظيمة، ليتم تكريمه فى المحافل العربية، ويمنحه عتاة الطغاة فى مجتمعاتنا، وأولهم معمر القذافى، التكريم والجوائز المالية والعينية، التى فاقت أكثر أحلامه جموحا، بوصفه مفكرا شيوعيا غربيا تراجع عن ضلالاته واعتنق الإسلام. حدث هذا مع الرجل فلم تتبرأ منه فرنسا، ولم تهدر الفاتيكان دمه لخروجه عن المسيحية، ولو حدث العكس لدينا وقرر شخص عادى مسلم، ينتمى إلى الإسلام بالمولد فقط، ولم يختره لنفسه، أن ينتسب إلى دين آخر بمحض إرادته الحرة لقامت الدنيا ولم تقعد، وَلَاتَّهمناه ببيع ذمته إلى الغرب الملحد، والمسيحية الصهيونية. ومن الأرجح أن يصل الأمر بنا إلى إهدار دمه بفتوى إرهابية تجعل رقابنا بحجم السمسمة، وتضع الإسلام فى موقف ضعف تجاه كل من يتركه، حتى ولو تواضعت قيمته الفكرية والاجتماعية. الإسلام دين يمنح المرأة الحق فى الطلاق من رجل لا تطيق عشرته، ولا يجيز له قتلها إن رغبت فى هجره، لأن المنطق يقول إن سعادة طرفين لن تتحقق باستضعاف أحدهما وإجباره على الاستمرار فى علاقة لا يريدها رغما عن إرادته. هذا عن علاقات الأفراد ببعضهم البعض، فما بالك إذن، بعلاقتهم بالأديان، وهى أكبر وأجل من أن تستقوى على مستضعف ليستمر فى اعتناقها رغما عن إرادته؟ ما علينا، لنعد إلى موضوعنا.. رجاء جارودى نشر كتابا احتفى به المسلمون وتم تدريسه فى مختلف الجامعات العربية والإسلامية بعنوان: الأساطير المؤسسة (بكسر السين الأولى) للدولة العبرية. كان كتابه يقوم على أعمدة رئيسية، منها المبالغات الشنيعة التى تناولها «الهولوكست» فى ما يتعلق بالمحارق التى أشعلها هتلر لإبادتهم، ومن أهمها أيضا: تفنيده لفكرة حق اليهود التاريخى فى عودتهم إلى أرض الميعاد، وهذه النقطة على وجه التحديد أوافقه فيها، وأتفق معه مئة بالمئة فى تفنيده الرائع لها، لكننى لا أفهم مطلقا كيف يوافقه عليه إسلاميون يحلمون، إلى هذه اللحظة، بحقهم التاريخى فى العودة إلى بلاد الأندلس (إسبانيا) التى لم ينشأ أسلافهم الأوائل على ترابها، بل ويدعون إلى فتحها الثانى (غزوها) لاستردادها؟! وممن؟ من أيدى الإسبان أصحابها القدامى والحاليين! أهناك تناقض أكبر من هذا؟ الأدهى أن أولئك السادة يساعدون على إذكاء الروح الانفصالية لدى المسلمين الإسبان (المواركة)، ويلعبون (بأصابع خارجية) تعمل على إشعال النعرة الطائفية لديهم، بينما لو تجرأت مؤسسات الغرب المدنية، واهتمت بالدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والأقليات التى يتم انتهاكها منهجيا فى بلادنا، لأقمنا الدنيا ضجيجا وصراخا واتهمنا تلك المؤسسات غير الحكومية بأنها أصابع خارجية تعبث فى بلادنا، ولا بد أن نقطعها لانتهاكها لشأننا الداخلى! تصوروا معى جدلا أن كاتبا إسبانيا معاصرا نشر دراسة بعنوان: الأساطير المؤسسة لعودة المسلمين إلى دولة الأندلس، هل ستحتفى به جامعاتنا ومراكزنا البحثية العربية الإسلامية؟ بالطبع لا، فنحن قوم نكيل بمكيالين. نحن نرحب بالأفكار والمواقف إن كانت تصب فقط فى صالح قضايانا، ونرفض ذات الأفكار وذات المواقف إن كانت تنتصر لقضايا غيرنا، حتى لو كانت المعايير الفكرية التى تستند إليها واحدة فى الحالتين! قمة التناقض؟ صح؟ ما السبب فى ذلك يا ترى؟ السبب أن المنهج الفكرى، الذى يحكم نظرتنا للأمور فى مجتمعاتنا العربية ذات الأغلبية المسلمة، يقوم للأسف يا سادة على نظرة غير علمية تضرب مصداقيته فى مقتل، وهى نظرة يجسدها الاقتناع بامتلاكنا للحقيقة المطلقة بما يؤدى حتما إلى تعاملنا الانتقائى مع الأفكار والمواقف، باعتبارها صحيحة، إن كانت تخدم قضايانا فقط! من حقك، بل من واجبك أيضا أن تدافع عما تؤمن به، ولكن ليس من حقك أن تعاقب الآخرين على عدم اقتناعهم بصحة ما تؤمن به. انظروا إلى ممارسة مرسى وإخوانه لأبشع أنواع الاستبداد بالرأى وصولا إلى العنف الذى تدعمه سلطة تنحاز بشكل فاضح إلى عشيرتها، لتدرك أنهم لا يسمحون بأى مساحة للتوافق مع غيرهم. كيف يسمحون بهذا وهم يؤمنون بأن الله يتحدث بلسانهم؟ ألا يرتفع هذا بإرادتهم ورغباتهم إلى أرفع مستويات القداسة؟ هل ستسمح لو كنت مكانهم بمناقشة الكفار للتوصل معهم إلى حلول وسط فى ما يتعلق بالحلال والحرام؟ بالطبع لا. المشكلة المنهجية هنا أنك تحاول أن تتحكم فى قناعات الآخرين بمعيار يخصك وحدك، فى عصر لم يعد يسمح بذلك. حقك محفوظ على العين والرأس فى أن تحلل وتحرم لنفسك كيفما شئت، لكنك تتجاوز هذا الحق وتتعسف فى استخدامه عندما تقننه لتجعل قناعاتك تتسع عنوة لتشمل حياة الآخرين، وتجور على حقهم فى اختيار ما يحلُّونه لأنفسهم أو يحرمونه عليها، بما لا يهدر القيم العليا التى اتفق البشر على احترامها. تخطئ إن لم تدرك أن هذا التعسف كان يحدث فقط فى مجتمعات بدائية لم تكن قد وصلت بعد إلى المدنية التى جعلت البشر يفهمون أن القانون هو المساحة التى تحتوى على القواعد المشتركة التى يرتضونها جميعا لتحكم وتفصل فى ما بينهم على اختلاف عقائدهم. فى المواقف التى كان يمارس فيها الإخوان انتهازيتهم ويلصقون بخصومهم التهم الباطلة، بينما يتجاوزون فى نفس الوقت عن ارتكابهم، هم وأتباعهم، لأبشع الجرائم، كانت تتبادر إلى ذهنى وصايا مكيافيلى، «أبو الانتهازية السياسية» وكنت أتذكر ساعتها أيضا عبارة الكيل بمكيالين، المأخوذة من تراثنا العربى، فأتعجب من التشابه اللفظى بين مكيال ومكيافيلى وأقول لنفسى: فاض بنا الكيل والمكيال يا عم الحاج مكيافيلى.