لم يكن الشاعر محمود سامى البارودى، شاعرًا كبيرًا وغزير الإنتاج وجميله فقط، بل كان باعثًا لنهضة شعرية وأدبية بشكل واسع. ففى السنوات التى تألق فيها شاعرًا منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حتى رحيله الفاجع فى عام 1904، ظل التعريف الواسع بدور وبحياة وبأهمية البارودى شبه غائب، حتى كتب حمد عبد الله الشيخ، الطالب بالمعلمين العليا الأدبية، سلسلة دراسات عنه، وبدأ نشرها فى صحيفة «البلاغ» الأسبوعية، منذ 3 يوليو 1929، إلى أن وصل إلى الحلقة الخامسة فى 7 أغسطس، وفى تلك الحلقة كتب الباحث عن معارضات البارودى للشعراء العباسيين الكبار مثل النابغة الذبيانى وأبى نواس والشريف الرضى وآخرين من فرسان الشعر العربى فى العصور الأولى، واستكمل الشيخ دراساته بعد ذلك، وأوصلها إلى ست دراسات لتشكّل كتابا تعريفيا ونقديا، هو الأول من نوعه -على حدّ علمى- حتى تلك الفترة، وكذلك لم أر هذا الكتاب مطبوعا، وهو كذلك غير مدرج فى كل الفهارس التى تحدثت عن سيرة البارودى، وقد فعلت ذلك مشكورة منذ سنوات فى عيد «مؤسسة البابطين»، فطبعت ونشرت ديوان البارودى كاملا، بالإضافة إلى مجموعة دراسات مهمة عنه وعن سيرته وعن شعره، وهذا جهد مشكور لمؤسسة غير مصرية، لإحياء الحديث عن شاعر مصرى. يستعرض الباحث الأسباب التى أدّت إلى نكوص الشعور فى القرون المصرية الوسيطة، حتى عصر محمد على، ويقول عن دولة محمد على «الدولة العلوية»، ويثنى عليها، لأنها اهتمت بإيفاد البعثات العلمية والثقافية إلى أوروبا، هذه البعثات التى عاد أعضاؤها، ليقدموا جهودا فى التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم والقانون، إلا الأدب، فلم يكن له أى منصف، ويبدو أن هذا الظلم الذى يحيق بالثقافة قديم قدم بداية عصر النهضة. لذلك -يتحدث الباحث- تفشّت اللغة العامية الركيكة فى دواوين الحكومة، وأروقة الأعيان، وكانت اللغة المستخدمة، لا تفرّق بين كلمة «مصرى»، وكلمة «مصرللى»، على غرار عثمللى واستمبوللى، فلم يكن الاهتمام باللغة وبمفرداتها وبتجديدها ذا شأن آنذاك. وكان من شعراء ذلك العصر، شاعر يدعى محمود صفوت الساعاتى، وهو شاعر ضعيف جدا، ولم تبق منه سوى أراجيز قليلة، ولو كان شاعرًا ذا شأن، لاستطاع شعره أن يصمد أمام غوائل الزمن والنسيان، ولكن ذاكرة المصريين لم تحفظ له شيئًا ذا قيمة على الإطلاق. ومن هنا كان جهد الشاعر الفتى محمود سامى البارودى، الذى ولد عام 1837، ملحوظًا، رغم أن عائلته لم تتمتع بنفوذ شعرى، أو أى سطوة أدبية، ولم يكن له سوى خاله الذى يكتب شعرًا قليل القيمة، وخلت العائلة من أى مهتم بالأدب والثقافة تماما. ولولا سفر البارودى فى عمل وظيفى إلى الآستانة، ثم إلى باريس، ليجد نفسه وسط مناخات ثقافية وفنية متعددة، وكان هو مؤهلا بشكل نفسى لاستقبال تلك المناخات بشكل إيجابى، وكتب البارودى نفسه عن ذلك التأثر قائلا: «ولقد كنت فى ريعان الفتوة واندفاع القريحة بتيار القوة ألهج به لَهْج الحمام بهديله، وآنس به أُنس العديل بعديله، لا تذرعًا إلى وجه أنتويه، ولا تطلعًا إلى غُنم أحتويه، وإنما هى أغراض حركتنى، وإباء جمح بى وغرام سال على قلبى، فلم أتمالك أن أهبت، فحركت بى جرسى، أو هتفت فسريت عن نفسى». هكذا استطاع البارودى أن يضع يده ويدنا على البدايات، واكتشاف الجموح الذى حرّك وجدانه، حتى يكتب ما كتب، ويستنهض ما استنهض من الشعر العربى التقليدى، وهو الذى أتقن دراسة اللغتين التركية والفارسية، وكتب بهما شعرًا ونثرًا، وأجاد فيهما، ولكنه أخلص أيما إخلاص للكتابة العربية، والتى استطاع أن يفكر بها، ويشعر بها، ويفرح ويحزن، ويعيش كل حالاته الخاصة بها، والعامة فى الوطن. ولم تكن حياة البارودى تتحرك فى رغد، فهو الذى شارك عرابى ثورته، وأثنى عليه الزعيم بحلو الكلام وجيده، فقال عنه فى مذكراته: «إنى آنست فيه تأففًا من الظلم، وميلا إلى الديمقراطية والعدل»، وعندما انكسرت الثورة العرابية، حكم على البارودى -مع رفاقه- بالنفى إلى جزيرة سيلان، وهناك فقد بصره فى المنفى، فعاد إلى مصر كفيف البصر، بعد أن شفع فيه عند الخديو، ومن المعروف أن الشيخ الإمام محمد عبده هو الذى توسط له، وأقنع الخديو بإطلاق سراحه، فأذن له بالقدوم إلى مصر، بعد أن أمضى سبع عشرة سنة فى منفاه، وبقى فى منزله -كما يكتب الباحث- وهو أقرب إلى أن يكون رهن المحبَسَيْن كأبى العلاء، محبس العمى ومحبس المنزل. وقد ظل هكذا خمس سنوات إلى أن مات وهو فى السابعة والستين من عمره، ولم يكن ديوانه قد رأى النور، ولكن بعد رحيله، تولت جهات طبع بعض آثاره، التى تحتاج إلى قراءات لها، وتحليلات لمعانيها ومبانيها، وفى هذا السياق فالناقد الدكتور جابر عصفور له كتاب مهم عنوانه «استعادة الماضى»، استفاض فى تحليل وقراءة البارودى، وأعتقد أن هذا البحث كان ضمن الأبحاث التى قدمت فى مؤتمر البابطين. وليت هذا الكتاب المجهول لذلك الباحث المجهول، يجد طريقه للنشر، حيث إنه لا يلقى الضوء فقط على مسيرة البارودى، ولكنه يقدم قراءة موضوعية وعادلة لشاعر لا يستطيع الشعر العربى، أن ينفى دوره العظيم فى نهضته وإحيائه وانتشاله من عواصف الماضى التى نسفت أخضره ويابسه على مر عصور الظلام.