حين سافرت إلى إيران، فى منتصف شهر فبراير الماضى، فى أول زيارة لى إلى هذا البلد المثير للكثير من الفضول والتحدى بل والأوهام فى العقل العربى، أدركت أن جزءا كبيرا مما نختلف فيه حوله ونخشاه منه ونتوهمه بشأنه لا يعكس حقيقة بقدر ما يعد نتاجا لحالة انغلاق ذاتى وإحجام عن سبر حجب أراد العديد من الحكام العرب وساسة إيران على السواء، أن تسيطر على الإدراك العربى لهذا الفضاء الحضارى الذى لن تنفك تطوراته، مهما كانت محاولات الانعزال عنه، تلقى بآثارها على حاضر الدول العربية ومستقبلها. والآن والجدل العربى يتزايد حول تداعيات الاتفاق النووى بين إيران والقوى الكبرى، أظن أن رؤية من داخل إيران ربما تعين فى تقويم الكثير من مبالغات هذا الجدل الذى لا يزال ينطلق من وراء حجبه العقلية والمعرفية. على متن طائرة طيران الاتحاد التى أقلتنا من العاصمة الإماراتية أبوظبى إلى طهران، لاحظت أن الأغلبية الكاسحة من السيدات الإيرانيات اللاتى كن على متن هذه الرحلة بصبحة أقاربهن من الرجال سافرات ترتدين ملابس أنيقة وبسيطة ولا تضعن غطاء الرأس تحت مسمى الحجاب ومزاعم الفضيلة والتقوى الشكلية التى تسود الثقافات المحافظة. كان مشهدا يعكس فى آن واحد قدرا عاليا من الإحساس بقيمة الجمال والثقة فى النفس، استدعى إلى ذهنى الصورة التى اعتدنا أن نرى عليها المرأة المصرية بين مطلع ثلاثينيات القرن العشرين وحتى السنين الأولى من ثمانينيات القرن ذاته. قارنت سريعا بين مظهر هاتى السيدات الإيرانيات والمظهر الذى استوردته الثقافة المصرية من نظيرتها الخليجية المحافظة من حيث وجوب ارتداء المرأة غطاء الرأس والعباية الواسعة بزعم أنهما عنوان الفضيلة والطريق إلى الجنة، وأدركت كم لا تزال الطبقة الوسطى الإيرانية الحالية قادرة على مقاومة ضغوط الثقافة المحافظة التى تتستر، سواء فى ظل حكم الملالى فى داخل إيران أو فى مجتمعات الهجرة الخليجية، خلف تأويلات للنص الدينى لا تستند إلى أى تبصر فعلى للواقع أو حتى إلى استنباط منطقى محكم، بقدر ما تحاول بناء نسق تسلطى يستولى على عقل الناس ووجدانهم. مع وصول الطائرة إلى مطار طهران، بدأت السيدات الإيرانيات تضعن غطاءا بسيطا للرأس خشية قيود هذا البناء التسلطى فى داخل إيران. أدركت حينها أن قطاعات مهمة من المجتمع الإيرانى تعيش حالة انفصام بين خياراتها الفردية وقمع السلطة، وافترضت أن هذه القطاعات يتعين أن تكون ناقمة على تقييد حريتها، ما يجعلها بالتالى قوى معارضة كامنة لنظام الملالى الحاكم. وخلال أيام زيارة الوفد المصرى الذى كنت أحد أعضائه للعاصمة طهران ولمدينة إصفهان أحد أهم المراكز السياحية والتجارية فى وسط إيران، تأكدت لدينا بدرجة كبيرة عدم ميل هذا المجتمع لتلك المحافظة الشكلية، وتميزه بدرجة عالية من الانفتاح والتحرر، واحترام قيم الجمال والنظافة فى كل جوانب الحياة المختلف، على بساطتها جميعا هى الأخرى. خلصنا جميعا إلى أن الجانب الذى شهدناه من المجتمع الإيرانى، أقرب فى ثقافته إلى المجتمعات الأوروبية منه إلى الثقافة المحافظة التى تحيط به شرقا وغربا. ولم نشهد فى المناطق التى تجولنا فيها فى كلتا المدينتين، وهى مناطق للطبقة الوسطى المدينية بالأساس، إلا حضورا محدودا وغير طاغ بأى حال لمظاهر المحافظة الشكلية التى تعكس هوية النظام السياسى القائم فى البلاد. إلا أنه فى اليوم الأخير لنا فى العاصمة طهران، قبيل ساعات من سفرنا إلى إصفهان، وكان يوم الذكرى الرابعة والثلاثين للثورة الإسلامية، شهدنا تقاطر الآلاف من الرجال والنساء من ذوى المظهر المحافظ للاحتفال بذكرى الثورة، بينما اختفت تقريبا تلك الفئات من الإيرانيين الأكثر تحررا التى كنا نشهدها ونقابلها فى شوارع طهران وأسواقها وحدائقها. اتضح لنا حينها أن إيران لا تعانى فقط انفصاما بين ثقافة قطاع واسع من الإيرانيين، والنسق الدينى المحافظ الذى تتبناه السلطة الحاكمة، ولكن أيضا انقساما حادا بين قطاعات المجتمع الإيرانى وشرائحه. لا يمكننى الجزم من خلال تلك المشاهدات الأولية وغير العلمية إن كان هذا التباين الثقافى يتماهى مع انقسامات أخرى مناطقية أو طبقية أو مهنية/فئوية، وإن كنت أتوقع وجود مثل هذا التماهى كما هو حال جميع المجتمعات التى تعانى خللا جسيما فى التوزيع وانتشارا للفقر والتفاوت الاجتماعى. خلصت أثناء تواجدى فى إيران أن تلك القطاعات من الطبقة الوسطى المتباينة ثقافيا مع النسق العقائى والسلوكى المحافظ للنظام الحاكم، ربما تكون عنصر ضعف رئيسى فى ظهر هذا النظام إذا انفتح على الغرب حال التوصل إلى أى تفاهم نووى يتيح تدفق استثمارات القوى الغربية ومواطنيها إلى إيران. ويبدو أن تمكين هذه الفئات هو أحد رهانات الغرب، خاصة إدارة أوباما، أملا فى أن يؤدى ذلك إما إلى تحول نحو مزيد من التحرر والانفتاح السياسيين فى النسق السياسى الإيرانى يؤدى إلى إطاحة نظام الملالى أو على أقل تقدير تعزيز فرص تقاربه مع الغرب، وإما إلى إثارة صراع مجتمعى داخلى واسع النطاق فى إيران يكون بوابة لتدخلات خارجية واسعة. لكن اليوم وبعد ما يزيد عن خمسة أشهر من تلك الزيارة وبعد مراجعات عديدة لتلك الفرضية يبدو أن السيناريوهات الإيرانية أكثر تعقيدا من تلك الرؤية والافتراض المبسطين اللذين يتردد صداهما فى الكثير من التحليلات الغربية، وفى بعض الكتابات العربية أخيرا. هذا التعقيد هو ما سنناقشه فى مقال الأسبوع المقبل.