لم يكن توقيع مصر اتفاقية الارتباط ببرنامج «أفق أوروبا» فى بروكسل، مجرد خبر دبلوماسى عابر، فقد بدت القاعة يوم 22 أكتوبر ، وكأنها تشهد ولادة فصل جديد فى علاقة مصر بالعلم والتكنولوجيا والابتكار، فمنذ أن رُفع القلم فوق الاتفاقية خلال القمة الأولى بين الاتحاد الأوروبى ومصر، تحول وضع البلاد فى منظومة البحث العلمى من متلقٍ للمعرفة إلى مشاركٍ فى صناعتها وبقواعد متساوية. يقول د.عمرو رضوان، مسئول نقطة الاتصال الوطنية لمجلس الابتكار الأوروبى وبحوث الصحة ببرنامج «أفق أوروبا»، والذى كان مشاركاً بالوفد المصرى الذى وقع الاتفاقية فى تصريحات ل «الأخبار»، إن «هذا الحدث يُعد تحولاً نوعياً فى قدرات مصر التنافسية، إذ إنه يفتح «نافذة تمويلية هائلة» تُقدر بنحو 100 مليار يورو حتى نهاية البرنامج، مما يسمح للجامعات والمراكز البحثية والشركات المصرية، بما فى ذلك الناشئة منها، بالتقدم لتمويل مباشر دون وسيط، وبالمعايير نفسها المُطبقة على دول الاتحاد الأوروبى، بل أكثر من ذلك، فهو يُمكن الهيئات المصرية من قيادة تحالفاتٍ دولية كبرى فى مجالات ، لا مجرد المشاركة فيها. ويشرح رضوان: إن هذا الارتباط يمنح مصر بوابة وصول كاملة إلى الركائز الثلاث التى بُنى عليها البرنامج، بدءاً من برامج بناء القدرات العلمية والبعثات والتدريب والدكتوراة الصناعية، مروراً بمنصة مواجهة التحديات الصناعية والتكنولوجية، وصولاً إلى منظومة الابتكار التى توفر دعماً للشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة. ويشير رضوان إلى أنه بعد التوقيع أصبح « المجلس الأوروبى للابتكار» متاحاً الآن للشركات المصرية الناشئة، فيسمح بتقديم طلبات منح قد تصل إلى مليونين ونصف المليون يورو، مع إمكانية الحصول على تمويل رأسمالى قد يبلغ عشرة ملايين يورو أو أكثر فى مبادرات التوسع. قيمة مُضافة غير ملموسة والأهم من التمويل هو ما يسميه ب «القيمة المُضافة غير الملموسة»، وهى خدمات تسريع الأعمال والإرشاد وربط رواد الأعمال المصريين بمستثمرين وشراكاتٍ صناعية أوروبية. ويرى أن هذا الارتباط يمنح مصر فرصة الدخول فى مسار «انتقال الابتكار»، الذى يدعم تحويل نتائج الأبحاث والمشاريع المُمولة إلى منتجات وشركات قابلة للنمو، وهو ما افتقدته مصر طويلاً فى سلسلة القيمة العلمية. وبالإضافة لكل هذه المزايا، لا يغفل رضوان بعدًا إقليميًا مهمًا؛ فمصر أصبحت ثانى دولة إفريقية فقط ترتبط بالبرنامج، مما يمنحها مكانة متقدمة ويؤهلها لتكون نقطة ارتكاز للتعاون البحثى بين أوروبا وإفريقيا والمتوسط والمنطقة العربية. كما يؤكد أن الاتفاق سيفتح الباب أمام برامج إصلاحية داخلية تتعلق بحوكمة البحث العلمى، وتدويل الفرق البحثية، وتحسين سياسات نقل المعرفة داخل الجامعات والمراكز الوطنية. ويشدد على أن الاستفادة ستكون فعالة بدءاً من الدعوات التى يتم تنفيذها من ميزانية عام 2025، أى أن نافذة الفرص قد فُتحت بالفعل. فرصة ذهبية مُحاطة بتحديات وعلى الجانب الآخر، يصف الدكتور طارق قابيل، الأستاذ بكلية العلوم جامعة القاهرة، هذه الخطوة بأنها فرصة تاريخية نادرة، لكنها مُحاطة بتحدياتٍ لا يمكن إغفالها. فهو يرى أن الانخراط فى برامج الاتحاد الأوروبى يتطلب مستوى رفيعاً من إعداد المقترحات، وتنظيم فرق عمل متعددة التخصصات، والالتزام بمعايير صارمة للمنهجية البحثية وجودة المخرجات. ويضيف: أن المخاطر تكمن فى أن بعض المشاريع قد تنجرف لخدمة أجندات أوروبية بعيدة عن أولويات التنمية المصرية، مما يستدعى توجيهًا مُحكمًا نحو قطاعات حيوية مثل: المياه والطاقة والزراعة والصحة العامة. ويلفت قابيل فى تصريحات ل «الأخبار»، الانتباه إلى صعوبة التعامل مع الإجراءات الإدارية والمالية المُعقدة التى يشتهر بها الاتحاد الأوروبي، وهو ما يستوجب تحديثًا فى قدرات الجامعات والمراكز البحثية المصرية كى تتحرك بكفاءة دون عراقيل بيروقراطية. كما لا يخفى تخوّفه من ظاهرة هجرة العقول، فالتعرض للشبكات الأوروبية قد يجعل عروض الخارج أكثر إغراءً للباحثين الشباب، وهنا يصبح توفير بيئة بحثية جاذبة داخل الوطن أمرًا ضروريًا. ومع ذلك، يؤكد قابيل أن التأثير العميق للاتفاق لن يكون فى عدد المشروعات المُمولة فقط، بل فى بناء اقتصاد قائم على المعرفة، قادر على تحويل نتائج الأبحاث إلى منتجاتٍ وخدمات وسلاسل قيمة حقيقية. وهو يرى فى هذا المسار جزءاً من الرؤية التى تسعى مصر إلى تحقيقها فى 2030، ولاسيما فى مجالات: الأمن الغذائى ومعالجة المياه والاعتماد على الطاقة النظيفة. ورغم تباين زوايا التناول بين قابيل ورضوان، إلا أن كليهما يتفق على أن التوقيع ليس سوى البداية، فنجاح التجربة لن يُقاس بحجم الاحتفال الرسمى، بل بقدرة المؤسسات العلمية المصرية على التأقلم سريعاً مع معايير تنافسية عالمية، واستثمار الفرصة لا كمصدر تمويل فحسب، بل كمدخل لتغيير ثقافة إدارة البحث العلمى نفسها.