عرضت فى مقال السبت الماضى إلى عدد من المشاهدات التى تكشف تعارضا أنساق قيمية ذات توجه ليبرالى ونفعى تسيطر على بعض قطاعات المجتمع الإيرانى مع النسق القيمى المحافظ الذى يتبناه نظام الملالى الحاكم. ويزيد خطر عوامل الانقسام والتباين أن تلك القطاعات التى تتبنى أنساق قيمية أكثر ليبرالية ينتمى أغلبها إلى الطبقة الوسطى المدينية بالأساس والتى يفترض أن تكون من أولى القطاعات تأثرا بأى انفتاح اقتصادى على الخارج خارجى رفع العقوبات الاقتصادية المتوقع عن إيران. وقد بدأت بوادر مثل هذا الانفتاح تتجلى بالفعل مع تقاطر وفود اقتصادية ألمانية وفرنسية إلى زيارة طهران خلال شهر يوليو المنصرم بحثا عن فرص استثمارية فى إيران وتعاونا اقتصاديا واسعا معها. وتأسيسا على مقولات المدرسة الليبرالية التقليدية فى تحديد مكنات التحرير الاجتماعى والسياسى، يفترض تيار واسع من المحللين أن يفاقم هذا الانفتاح الاقتصادى الواسع على الغرب من أثر الانقسامات القيمية/المجتمعية فى المجتمع الإيرانى ومن تأثير القطاعات المجتمعية ذات التوجهات الأكثر ليبرالية فى الدفع نحو إعادة هيكلة النظام السياسى الإيرانى باتجاه مزيد من الانفتاح والمشاركة التى توفر مزيدا من تنوع القوى المؤثرة فى صنع السياسة الإيرانية ونحو إعادة تعريف أولوياته على صعيد السياسة الخارجية والأمنية بما فى ذلك إمكانية التخلى طوعا عن طموح امتلاك السلاح النووى فى ظل شبكة المنافع المتبادلة المتوقع اتساعها مع الغرب. ويبدو أن تلك المقولات هى ما يقف وراء منطق الاتفاق النووى مع إيران الذى يؤجل الحسم النهائى لأى توجه مستقبلى بشأن إمكانية عسكرة برنامجها النووى، لمصلحة الرهان على حفز التغييرات السياسية الداخلية. إلا أن هذا المنطق وتلك المقولات تتغافل عن ثلاثة متغيرات مهمة تحد كثيرا من أثر مكنات التغيير المفترضة تلك، ويمكن إجمالها فيما يلى: 1- أنه رغم التباين القيمى الذى تمت الإشارة إليه، فإنه لا يمكن ملاحظة أى توجه من قبل السلطات الإيرانية الحاكمة لانتهاج سياسات رقابة وتقييد مجتمعية صارمة، مثلما يتم فى المملكة العربية السعودية المجاورة، أو حتى مثل ما كانت تشهده إيران نفسها فى السنوات الأولى التى تلت الثورة الإسلامية. ويبدو أن الحكومات فى الأنظمة ذات الأبنية الاستبدادية لا تتجه بعدما يستقر لها أمر السلطة إلى الصدام مع التوجهات القيمية الغالبة فى مجتمعاتها بقدر ما تسعى إما إلى التماهى معها بل والمزايدة عليها كما يبدو فى الحالة السعودية، أو التسامح معها إلى حد التغافل كما يبدو حاليا فى الحالة الإيرانية. ويتوقع أن يستمر هذا التوجه القيمى المتسامح من قبل السلطات الإيرانية فى مرحلة ما بعد الاتفاق النووى والانفتاح على الغرب، إن لم يتم أيضا محاولة توفير بعض القراءات الفقهية التى تبيح هذا التسامح القيمى فى ظل التداخل السلطوي/الفقهى فى ينية النظام الإيرانى. 2- أنه فى ظل تزايد القدرات الاقتصادية والمالية للأنظمة الاستبدادية خاصة فى الدول الغنية بالموارد الطبيعية، لم تعد العلاقة بينها وبين أى ارتقاء فى قوة الطبقة الوسطى ودورها الاقتصادى هى علاقة تعارض نفوذ وتنافس سياسى بقدر ما أضحت علاقة شراكة اقتصادية وتبادل منافع تدفع الطبقات الوسطى والبرجوازية الجديدة الصاعدة فى تلك البلدان إلى دعم السلطة السياسية بدلا من تحديها. وقدمت الصين، فى هذا السياق، نموذجا يتعارض مع كل مقولات التطور الاجتماعى والسياسى التى تتبناها المدرسة الليبرالية، كما يبدو الأثر ذاته فى بلدان الخليج العربية الغنية بالنفط. ويتوقع ألا تكون إيران استثناء من هذه الاتجاه الجديد الذى يخالف خبرة التغيير السياسى فى أوروبا مع بدايات المركنتيلية (مرحلة تنامى نفوذ التجار) وما صاحبها من تحدى لسلطة الملكيات خلال القرن السادس عشر الميلادى. وبالنظر إلى سعى إيران إلى تطوير صندوق الثروة السيادية الذى أنشأته فى عام 2011 والذى يعرف ب»صندوق التنمية الوطنى» لكى يستحوذ على نحو 95% من عائدات النفط والغاز خلال خمس وعشرين عاما، وبالنظر أيضا إلى تخصيص 50% من رأسمال هذا الصندوق لدعم القطاع الخاص والتعاونى وغير الحكومى داخل إيران، يتوقع أن تكون الدولة شريكا مهما لأى عملية صعود فى قوة الطبقة الوسطى وحضورها، من خلال ما يمكن ان توفره لها من دعم مالى ومن حماية فى مواجهة تقلبات السوق العالمى. ويبقى أخيرا أن زيادة القدرة المالية للدولة الإيرانية عامة ستعزز نظريا من قدرتها على تبنى برامج رعاية اجتماعية أكثر كفاءة واتساعا ما يحد من عوامل الإحباط والاحتقان الاجتماعيين. 3- أن إيران لن تكون هدفا استثماريا للقوى الغربية فقط، بل ستكون بالمثل هدفا للقوى الاقتصادية الصاعدة سواء فى شرق آسيا وجنوبها، خاصة الصين والهند، أو غيرها مثل البرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا. ولا تشترط هذه القوى جميعا أى التزام من قبل الدول التى تتعاون معها بأنساق قيمية وسياسية ليبرالية أو ديمقراطية، ما يعنى أن قدرة الغرب على فرض شروطه السياسية والقيمية على إيران ستكون محدودة للغاية. فى الخلاصة، يبدو أن الرهان على تغيير سياسى فى إيران يقوده التباين القيمى أو تنامى القوة الاقتصادية للطبقة الوسطى، لن يكون مضمونا بأى حال أن يفضى إلى انفتاح سياسى واسع النطاق فى النظام الإيرانى أو تغيير جوهرى فى توجهاته السياسية. ويبدو أن التطور السياسى فى إيران سيرتبط بدرجة أكبر بإعادة تعريف إيران لدورها الإقليمى وما يرتبط بذلك من إعادة تعريف للتوزان بين الاقتصادى والعسكرى فى السياسة الخارجية الإيرانية، وبالتالى فى وزن مؤسسات مثل الحرس الثورى والمؤسسة الفقهية.