أعتقد أن المثقفين المصريين منذ الثورة العرابية عام 1882، وهم يطرحون سؤالا متكررا، ولا يملون من تكراره، ألا وهو: «أين أدب الثورة؟»، وأعتقد -كذلك-، أنه ليس سؤالا نقديا أو سياسيا، بقدر ما هو سؤال اجتماعى وفلسفى، وربما لم يجد المثقفون والكتّاب والمبدعون إجابات شافية حتى الآن على هذا السؤال، ولكن الدكتور محمد حسين هيكل، كتب كتابا فى غاية الأهمية، ونشره عام 1933، عنوانه «الثورة والأدب»، وربما يكون هذا الكتاب المبكر جدا فى تقليب سؤال الأدب والثورة، من أشمل الكتب التى استطاعت أن تطرح إجابات، وربما جاءت هذه الإجابات على عكس ما يشتهى السائلون. إذ راح هيكل يبتعد رويدا رويدا عن بيت الداء الذى يريد المثقفون دخوله، أقصد أنهم يريدون الإجابة عن سؤال ارتباط الأدب بالثورة بمفهومها السياسى، ولكن حسين هيكل، راح يتحدث عن الأفكار واللغة والقوالب الفنية والأساليب الأدبية، والتطورات التى لحقت بالبنيات الفنية للنصوص الأدبية، وكذلك -على الهامش- علاقة كل هذا بثورة 1919. كان الكتاب مفاجئا، وهادئا فى طرحه وإجاباته، وعميقا فى إدارة القضية، إنه كتاب ليس كتابا دعائيا ولا سياسيا ولا ينتظر أن يصب فى خدمة ثورة معينة، أو فكرة سائدة، ولكن محمد حسين هيكل كان يلقى بهواجسه ورؤاه العميقة، والتى تستمر مطروحة على مدى أزمنة بعيدة، تبدأ من تلك الفترة التى كتب فيها الكتاب، حتى وقتنا الحالى، وكذلك كانت طبيعة هذا العصر، الذى ضم فى إهابه طه حسين وعلى عبد الرازق وإسماعيل مظهر وإسماعيل أدهم وأحمد لطفى السيد وغيرهم، ممن تركوا بصماتهم الفكرية فى عقول ووجدانات المصريين حتى الآن. ولأن مصر ضربت أرقاما قياسية فى القيام بالثورات، ولا أستثنى هنا «ثورة التصحيح» فى 15 مايو 1971، والتى قام بها الرئيس محمد أنور السادات -وهو فى قمة السلطة!!- على رفاقه، وأطاح بهم ذات ليل بهيم، كان السؤال المزمن عن علاقة الأدب بالثورة مطروحا، ومثار تحقيقات صحفية، ودراسات نقدية، وملفات تعدها مجلات وصحف وفضائيات، وظل السؤال يلاحقنا ثورة بعد ثورة، لدرجة أننا لو جمعنا الإجابات المتنوعة، والتى تصل إلى حد التناقض، ستصيبنا دهشة وذهول وارتباك. وفى 24 يوليو 1962، وبمناسبة الذكرى العاشرة لثورة يوليو، أعدّ القسم الأدبى فى صحيفة «المساء» ملفا عن علاقة الأدب بالثورة، وكتب الناقد فوزى سليمان قائلا: «إن أدب الثورة هو ذلك النوع من الأدب الذى يخلق الوعى الثورى فى النفوس ويعمقه فيها، إنه الأدب الذى يلهم الشعب وينبع من الشعب ويفتح عيونه وينير بصيرته على الحقيقة وعلى الواقع الذى يعيش فيه». وكتب الكاتب والروائى فاروق منيب، الذى كان مشرفا على الصفحة وقتها، كلاما حماسيا وفضفاضا «إن المثقفين والأدباء يعيشون اليوم عهد الاستقلال والتحرر الوطنى، هم يعيشون لبناء صرح ثقافتهم الوطنية الشامخة.. وقد خطت هذه الثقافة خطوات هامة نحو الشعب، إنها اليوم تصل ماضيه بحاضره.. إن الثورة دفعت ثقافتنا الوطنية دفعات قوية نحو الاستقلال، وعلى المثقفين والأدباء أن ينهضوا بثقافتهم وأدبهم حتى تكون التعبير الصادق الأمين عن آمال وطموحات شعبنا العظيم». وقد أجرت الصحيفة بالإضافة إلى هذا الكلام الحماسى الذى يشبه دق الطبول فى الأفراح العامة، تحقيقا عنوانه «مكاسب ثقافية فى ظل الثورة»، وراح المحرر يطرح الإنجازات الثقافية التى حدثت على مدى سنوات الثورة، واعتبر التحقيق أن إنشاء وزارة الثقافة فى عهد الثورة، كان من الإنجازات الكبرى للمثقفين المصريين. وبعيدا عن توجه الجريدة ومحررها وتوجه الدولة الذى تبثه دوما فى الصحف، فالسؤال والإجابة عليه دوما ما يكون ملتبسا فى ذهن الناس عموما والنقاد والصحفيين خصوصا، لأن كل هؤلاء يبحثون عن الأحداث السياسية وتمجيدها أو سبها، وربما تكون معظم الدراسات التى تطرقت إلى هذا الأمر، لم تلتفت إلى كتاب محمد حسين هيكل الذى صدر منذ عقود بعيدة، وعالج الأمر على نحو مغاير تماما. ورغم أن السؤال مزمن فإن النقاد يظلون عاجزين عن تقديم إجابات قاطعة، فمنهم من يعتبر أن بعض روايات إحسان عبد القدوس، وأبرزهم «فى بيتنا رجل» لكونها تتحدث عن واحد يحمل الثورية، ثورية تماما، وكذلك بعض روايات يوسف السباعى، فى روايته «طريق العودة»، لأنها تتناول حرب فلسطين، وقد نالت هذه الرواية قدرا كبيرا من التقريع والنقد السلبى، وكان أهم من وصفها بصفات سلبية الناقد العلّامة محمد مندور. وفى عقد الخمسينيات كانت «الواقعية الاشتراكية» هى الأسلوب الثورى السائد، الذى اعتمده النقاد الشباب آنذاك، هو جواز المرور إلى الأدب الثورى، لذلك سقط عمدا، وعلى سبيل القصد والإرادة كتاب مثل إدوار الخراط الذى أصدر مجموعة قصصية فى غاية الجمال عام 1959 عنوانها «حيطان عالية»، ولكنها لم تلفت نظر أحد فى ذلك الوقت، رغم أنها التجسيد الأعلى لحالة ثورية فى اللغة والأسلوب والموضوع. ولكن كان السائد آنذاك، أن شرف الفن ينبع من شرف القضية المطروحة فى النص الشعرى أو السردى، أو المسرحى، حتى لو كانت المعالجة شديدة السطحية، كذلك تم تجنيب الكاتب يوسف الشارونى عمليات النقد التى كانت تنفذ برنامج الواقعية الاشتراكية فى كتاباته. وتبعا لذلك نشأت جماعة اسمها «جماعة الزاحفين»، وكانت هذه الجماعة تهتف بشعارات رنانة، ولكنها ذابت سريعا، ولم تستطع أن تقّدم أى نوع من الأدب الجيد. وهكذا تمر العقود تلو العقود والسؤال ما زال مطروحا حتى الآن.