صحيح أنك لا تنزل النهر مرتين كما أخبرنا الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس, ولكننا قررنا أن نخوض التجربة مرتين. بل ونطمع أن يكون النهر الآن- علي ما فيه من فساد أمكنة وأزمنة- مثلما كان النهر قديما. عندما أصدرت الأهرام ملحقا ثقافيا منحها ريادة في المجال الفكري, وجعلها قبلة المثقفين العرب في الستينات من القرن الماضي. فمع مجيء صحافي لامع لرئاسة تحرير الأهرام هو الأستاذ محمد حسنين هيكل, عاشق الأدب ومتذوقه والحافظ لآلاف الأبيات الشعرية, والقارئ لمئات الروايات الأدبية, والكتب الفكرية- اتجهت المؤسسة اتجاها آخر يربط الخبر بالراي في توليفة من ثقافة مهنية رفيعة, ومهنية تتكئ علي أرشيف ثقافي رفيع. وكان أن استقطب الصحافي اللامع كوكبة من أكبر مثقفي مصر وكتابها المبدعين للمساهمة في مشروعه الثقافي بالأهرام.. فرأينا المسرحي الأكبر توفيق الحكيم, والروائي العظيم نجيب محفوظ وتشيخوف القصة القصيرة العربية يوسف ادريس. ورأينا حسين فوزي الليبرالي جنبا الي جنب مع لطفي الخولي الماركسي, ومعهم الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود وهي الكوكبة التي استوطنت الطابق السادس الشهير في تاريخ الاهرام بطابق العمالقة. ونجح هيكل في اصلاح الصحيفة القومية التي تعكس اطياف المجتمع ومدارسه الفكرين بامتياز. وفي الملحق رأينا ابداعات المفكر القبطي اليساري النقدي الكبير لويس عوض, مع الكاتب الساخر والصحافي أحمد بهجت.. وبات الملحق أسبوعيا قبلة المبدعين المصريين والعرب الذين رأوا فيه تعبيرا أمينا عن الجماعة الوطنية المصرية في مشروعها القومي العربي, وترجمة دقيقة للتنوع الفكري في المشهد الثقافي المصري وعندما تراجعت الفكرة الوطنية وتقزم دور مصر في عهد السادات, كان طبيعيا أن يهتز دور الاهرام, ليس فقط بخروج هيكل من رئاسة تحريره ولكن بخروج الأهرام عن صيغتها القومية. صحيح انها حافظت عليها نسبيا في صفحات الرأي, ولكن الصبغة الثقافية التي منحت الأهرام بصمتها التاريخية أخذت في التراجع شيئا فشيئا, حتي باتت صفحات الثقافة كالبدوي الذي يحمل خيمته ويرحل كلما زاد حجم الإعلان او احتاجت إدارة التحرير مساحة لأخبار عاجلة.. وباتت الثقافة عبئا نفسيا علي إدارة التحرير ما قلص مساحتها وربما تأثيرها, الأمر الذي جعل المثقفين ينصرفون احيانا عن قراءة الاهرام, رغم استعادة بعض الاسماء اللامعة للكتابة مؤخرا من امثال الروائي الكبير بهاء طاهر الذي نتمني عودته مجددا للكتابة في الاهرام, والشاعرين حسن طلب وعبد المنعم رمضان والدكتور جابر عصفور ومن قبلهم الشاعران الكبيران احمد عبد المعطي حجازي وفاروق جويدة وقد يتساءل القارئ الكريم كيف يتراجع دور الأهرام الثقافي ويكتب فيه كل هذه الكوكبة اللامعة من الأدباء والنقاد والإجابة هي المناخ والسياق.. فعندما استكتب هيكل الحكيم ومحفوظ وغيرهما كانت التجربة الوطنية المصرية في صعودالسؤال بحثا. عن اجابة الهوية والدور ولذلك جاء المثقفون يحملون أسئلتهم الصاعدة فتبحث في حوارها مع القراء عن الاجابة, أما في زمن توخي الإجابات التي تسبق الأسئلة, تصبح كتابات معظم المثقفين في الأهرام خروجا علي النص و تمردا علي السياق لأنها تسأل في زمن الإجابات وكان هذا هو الوضع قبل ثورة يناير.. أما الآن فقد عاد للسؤال رونقه وضرورته وباتت الكتابة اختبارا حقيقيا لقدرتها علي طرح الأسئلة بلا خوف من اجابات محنطة او ثورية او مفروضة بمعاول التاويل المتيسر والقسري وصار اصدار ملحق ثقافي سؤالا منطقيا لاختبار مناعتنا الثقافية وهل تستطيع ان محتمل التعدد منهجا وطريقا وسؤالا لا يتوقف ؟! هذا هو هدفنا. أن نعيد للسؤال فتنته, وقدرته علي الإغواء لتشيع بيننا ثقافة الشك في مقابل ثقافة اليقين الجاهز, وثقافة السؤال مقابل ثقافة الإجابات سابقة التجهيز, وثقافة النقد في مقابل ثقافة الطاعة. عدنا لنسأل.. وسنظل سؤالا خارج الزمن حول الهوية والدور والموقف. فلا حوار بلا أسئلة ولا تقدم بلا حوار تحية واجبة لمحمد حسنين هيكل ولويس عوض وكوكبة المثقفين الكبار الذين علمونا كيف نسأل وتحية لمن امسك جمر التساؤل ولم يفرط فيه في زمن الإجابات الهجين