أنتجت خدمة مثقفي المتسلط للحكم التسلطي في المجتمعات العربية[1] انحطاطا لا سابق له في قيادات المؤسسات ذات الطابع الثقافي، فأضرت بالمواقع الثقافية المهمة، التي صار يحكمها- بدلا من قمم فكرية مشهود لها، بامتلاكها معارف عميقة ورؤى عظيمة واهتمام أصيل بقضايا الأمة- من يمكن نعتهم، وفق تعبير الشاعر أحمد فؤاد نجم العبقري “جاهل عصامي”، كما أضر بمجمل البنية الثقافية للمجتمع نتيجة لسيادة الرداءة- فلم تكن لهم أصلا قيمة فكرية، ناهيك عن دور مجتمعي نهضوي- ولجوئهم للكذب الفاجر والنفاق المفضوح والتضليل المكشوف من أجل التدليس على الناس لتجميل وجه الحكم التسلطي القبيح. وزاد الطين بلة، مع تصاعد الهوس الأمني لأنظمة الحكم التسلطي أن ارتقى سدة المواقع الثقافية، من يرضي عنهم جهاز الأمن، أو يعملون له جهارا نهارا، خاصة في مجال الإعلام وحتى في الجامعات. وتكفي في حالة مصر تدهور قدر من رأسوا جامعة القاهرة، من الشوامخ أحمد لطفي السيد وطه حسين[2] إلى إمعات من أساتذة الجامعات لا قيمة فكرية لها؛ ولا مؤهل لها إلا الانتماء لحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي، إدعاءا وزيفا!) وخدمة الحكم التسلطي لاسيما جهاز البطش البوليسي المُسلَّط على الجامعات. ويمكن أيضا ذكر تدهور قدر رئاسة المؤسسات الصحفية الرسمية الكبرى مثل الأهرام، من “محمد حسنين هيكل” (أيا كان رأينا فيه سياسيا، لكن لا خلاف في أنه صحافي مقتدر، ومثقف، بل مؤرخ، مُجيد) إلى المدعو “أسامة سرايا”. وترتب على هذا التدهور أن انحطت قائمة الكتاب الدائمين في الصحيفة من الأعلام الشوامخ أمثال توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ولويس عوض ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، في زمن مضى إلى أشباه مثقفين لا تحمل كتاباتهم حسا نقديا واضحا، إن لم يتسموا بالنفاق المفضوح لرؤوس الحكم التسلطي والولاء لنظام التسلط وانتماءاته الداخلية والخارجية وبتضليل الشعب من خلال تزييف الحقائق والوعي. وحتى وقت قريب كانت صفحة الرأي بالأهرام تحتمل نافذة ضيقة لكتابات نقدية، ولكن مهذبة، من أمثال الكاتب. ولكن أمست صفحات “قضايا وآراء” في الأهرام الآن تقتصر على العاملين بالمؤسسة، المفترض فيهم الولاء للسلطة أصلا، أو كتّاب لا يتميزون بأي حس نقدي، إن لم يكونوا منافقين أو مبررين للحكم التسلطي. وليس غريبا والحال كذلك أن انهار توزيع صحف هذه المؤسسات، انهيارا مريعا. وفي حالة الأهرام يقال أن ما يسند توزيعها ليس إلا إعلانات الوفيات، فما ذا يكون مصير توزيع الصحيفة لو نشأ موقع لإعلانات الوفيات على الإنترنت؟. وفي الخبرة أيضا أن مثل هؤلاء الإمعات، الذي لا يمتلكون مشروعا فكريا أو ثقافيا أصلا، يشيعون في المؤسسات التي يولون عليها مناخ الاستبداد والفساد نفسه الذي يقوم عليه الحكم التسلطي وينتهون مجرمين في حق المجتمع والناس. انظر في ملف الفساد الفاجر لرئيس سابق لمؤسسة الأهرام (إبراهيم نافع)، والذي انتهى بتغريم محكمة لواحد من الوطنيين الذين سعوا لفضح فساده (أحمد النجار). ------------------------------------------------------------------------ [1] يدعي بعض مثقفي المتسلط في معرض الدفاع عن انتهازيتهم، أنهم يخدمون “الحكم” وليس الحاكم، “الرئاسة” وليس الرئيس. ومن أشهر أمثلة هؤلاء في الغرب، في العصر الحديث، “هنري كيسنجر”، عن فهمي هويدي. [2] في واقعة مشهودة، في 9 مارس 1928، استقال الأول احتجاجا على فصل رئيس الوزارة إسماعيل صدقي وقتها للثاني لرفضه طلب صدقي منح الدكتوراه الفخرية لأربعة من كبار رجال السياسة عندما كان عميدا لكلية الآداب. وكان موقف طه حسين: “إن الجامعة ليست إدارة حكومية تأتمر بأمر رئيس الحكومة وإنما هي هيئة مستقلة ذات إرادة حرة تمنح درجاتها لمن تريد وقتما تريد”، وأين ذلك من رؤساء الجامعات الحاليين الذين يأتمرون بأمر ضابط صغير في جهاز الأمن أحيانا. وقد اتخذت جماعة من أساتذة الجامعات تسعى لاستقلال الجامعات، من تاريخ الواقعة عنوانا لحركتها. مواضيع ذات صلة 1. د. نادر فرجاني : مثقف المتسلط ومثقف الشعب(2) 2. د.نادر فرجاني: خيانة المثقفين في الوطن العربي، بالتركيز على حالة مصر 3. “القومي للترجمة” ينظم دورة لإعداد مترجمين في الثقافة العلمية والآداب