«ساقية وسبيل وتكية».. ثلاث مناطق أثرية ومعها محمية طبيعية، تجمعها فقط «يد الإهمال»، واحتلال البلطجية ومدمنى المخدرات والخارجين عن القانون مواقعها التاريخية، فضلًا عن الهبوط الأرضى المفاجئ نتيجة الغرق فى مستنقع المياه الجوفية الذى نال من جمال تصميمها المعمارى الفريد، وطمس ما حُفر على جدرانها من نقوش فنية بديعة، لم يتبقَّ منها غير كلمات صوفية باهتة شاهدة على جرائم الإهمال الرسمى لتاريخ مصر الأثرى «لمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا الله أيها الغافلون وشمّروا أيها المقصرون وأحسنوا البصر أيها المستبصرون».. عبارات بليغة خُطَّت وحُفرت على جدران وحوائط «التكية» منذ عقود طويلة، لتصرخ فى وجه المسؤولين أن انتبهوا واحفظوا ما بقى من تراثكم وتاريخكم قبل فوات الأوان. «ساقية وسبيل وتكية».. تراث مصر يغرق فى النفايات على بُعد خطوات يسيرة من الساقية وعلى الجانب الآخر من مصر القديمة بمنطقة السيدة زينب، وتحديدًا فى درب الجماميز، يوجد سبيل وكُتَّاب يوسف الكردى الذى تم ترميمه مؤخرًا من قبل شركة «يوسف للمقاولات والديكور»، ولكن بمجرد اقترابك منه أو ساقك حظك العثر على المرور من أمامه ستفاجأ بتشققات عديدة بالحوائط الخارجية، وإهمال تام لذلك الأثر العثمانى العريق من قبل المسؤولين، وهجرة كاملة له من قبل السائحين والزائرين، والقمامة تسكنه من كل مكان حوله والمياه الجوفية تغمر أرضيته من الداخل وتظهر الأملاح بارزة على جدرانه من الخارج بشكل كبير يجعله آيلًا للسقوط فى أى لحظة. يعد سبيل يوسف الكردى من الآثار العثمانية القديمة منذ القرن ال16 الميلادى، المسجلة بوزارة الآثار تحت رقم «263»، وهو ملحق بمجموعة معمارية تتألَّف من زاوية وتكيّة ومدفن للشيخ جمال الدين يوسف الكردى، يشغل السبيل الركن الغربى من هذه المجموعة المعمارية، وكان يعلوه كُتَّاب اندثر وغير قائم حاليًّا، ولم يبقَ منه شىء يدل على الشكل الذى كان عليه قبل اندثاره. وهو من أبرز الأسبلة التى بُنيت فى مدينة القاهرة خلال فترة العصر العثمانى، والتى تحتوى على ثلاثة شبابيك لتسبيل ماء الشرب، منها شباكان فى ضلع واحد من أضلاع حجرة التسبيل، وحجرة التسبيل مستطيلة الشكل، بها ثلاثة شبابيك لتسبيل ماء الشرب، وفى الجهة الجنوبيةالشرقية لحجرة التسبيل حجرة صغيرة ملحقة توجد بها فوهة الصهريج، وفى الضلع الجنوبى الشرقى لحجرة التسبيل توجد دخلة الشذروان إلى يمينها باب يؤدّى إلى الحجرة الصغيرة، وفى الضلع الشمالى الغربى شباك التسبيل الرئيسى المطل على الشارع. سطح السبيل مكسو بطبقة من البلاطات الحديثة، وبُنى على جزء منه عدة قاعات حديثة للسكن، ويبرز قليلًا فى الطريق، وتجاوره فى الجهة الغربية منه كتلة الدخول إليه، وفى الجهة الشمالية المدفن ثم التكية، وفى الجهة الجنوبيةالشرقية الزاوية المخصصة للصلاة. استغل المهندس المعمارى بروز السبيل فى الضلع الشمالى الشرقى عن بقية المجموعة المعمارية فى عمل شباك لتسبيل ماء الشرب، كما أنه فتح فى الجزء المشترك من هذا الضلع شباكًا ثالثًا لتسبيل الماء بغرض خدمة المترددين على المدفن لزيارته. ساقية ابن طولون.. مُغلقة بأمر الأهالى بعد أن تحوَّلت إلى مأوى للبلطجية ما إن تقترب من هناك لا ترى سوى بقايا أحجار قديمة متناثرة فوق جدران تبدو عليها علامات السنين وتشققات الإهمال فى قلب مبانٍ سكنية عالية تحاصرها من كل مكان، ولا تشم سوى رائحة عطنة كريهة تزكم الأنوف تفوح من بين أكوام القمامة المتناثرة على جنبات الطريق المؤدية إلى «ساقية بن طولون» فى أعرق أحياء مصر القديمة، حى البساتين، وهو أحد الآثار الإسلامية القديمة التى كانت تُعرف قديمًا باسم «سقاية بن طولون». عدد من أهالى حى البساتين يقولون إن «هذه الساقية الأثرية كانت تبدأ من منطقة (بير أم السلطان) فى حى البساتين، وتنتهى عند جامع سيدى عُقبة، وقد أنشأها الحاكم ابن طولون فى القرن التاسع الميلادى، لإيصال المياه من بركة الحبش، وذلك لإمداد مدينة القطائع والقصر الطولونى بالمياه». كما يعد هذا الأثر أحد خمسة آثار متبقية من العصر الطولونى، وهى «جامع بن طولون، والفسقية الطولونية، والساقية الطولونية، وقناطر ابن طولون، وبقايا البيت الطولونى»، الأثر مهمل تمامًا اليوم ومحاط بالمبانى التى تخفى ما تبقى من معالمه، ومنها ما هو على وشك الانهيار على هذا الأثر النادر، كما يستخدم المكان فى أغراض مشبوهة، إذ إنه مأوى للخارجين عن القانون ومدمنى المخدرات، وهو ما دفع سكان المنطقة إلى إغلاق أى مدخل يؤدِّى إلى الأثر بطرق بدائية، كوضع سلك شائك أو بعض الحواجز الحجرية أو الخشبية عند مدخل الساقية. «الغابة المتحجرة» مدفونة بين محطة صرف صحى ومنطقة صناعية سور حجرى متهالك على طريق (القطامية– السخنة) جنوبالقاهرة الجديدة، تعلوه لافتة باهتة متآكلة، لا يظهر منها سوى كلمتين مطموستى المعالم «الغابة المتحجرة» التى تحتوى على عشرات الأشجار المتحجرة العريقة وهى عبارة عن محمية طبيعية تابعة لوزارة البيئة، تحوَّلت بفعل فاعل إلى مقلب لمخلفات البناء، وتتم سرقة الأشجار المتحجرة منه منذ وقت طويل، فضلًا عن تسلل الخارجين عن القانون ومتعاطى المخدرات بلا رقيب أو حساب. على بُعد 18 كيلومترًا من حى المعادى تقع الغابة المتحجرة التى يطلق عليها الأهالى اسم غابة الرعب والغابة الخشبية، أو جبل الخشب، وبها جذوع عديدة من الأشجار المتحجرة التى تتراوح أطوالها ما بين 15- 25 مترًا بشكل أفقى، وتوجد بكثافة فى الموقع، والتى يرجح رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الأسبق، أحمد عبد الحليم حسن، أنها جُرفت بسبب فيضان النيل، لقرب أحد فروع النيل من الموقع، واستقرَّت به، وبمرور الزمن حدث «الإطماء» وتحجَّرت، وذلك منذ ملايين السنين، أو تكونت فى العصر المطير، وتعتبر شاهدًا عليه، حسب ما ذكره الدكتور جمال حمدان، وكذلك الدكتور رشدى سعيد، أحد أهم علماء الجيولوجيا فى القرن العشرين. توصلنا إلى أنه تم تسجيل جزء ضئيل من هذا الموقع الجيولوجى الأبرز فى مصر، ويبلغ نحو 6 كيلومترات وذلك فى عام 1989، طبقًا لقانون المحميات الطبيعية رقم 102 لسنة 1983، فى حين تم إهدار باقى المساحة الجغرافية المهمة والممتدة لعدة كيلومترات فى اتجاه الطريق الدائرى، وتم إنشاء منتجعات سكنية فى نطاقها، مثل التجمع الخامس ومدينة الرحاب، وتجاهلت الحكومة أهمية الموقع الذى يؤرّخ لتاريخ مصر الجيولوجى، كما أنه يعتبر كنزًا جيولوجيًّا للباحثين والمتخصصين، وكذلك الهواة والمهتمين بالسياحة الطبيعية. ليس هذا فحسب، بل إن الحكومة حينما قررت فى أواخر الثمانينيات إنشاء هذه التجمعات السكنية لم تحاول أن تستغل الموقع، حسب ما قالته الدكتورة غادة فاروق حسن، أستاذ التصميم العمرانى بجامعة عين شمس، فأهملته تمامًا وطمسته وضيّعت ملامحه الجمالية، حتى الجزء الذى تم تسجيله لم يراعوا حمايته، وانتهكوا قوانين البيئة وتضيف غادة فاروق أنه «كان من الأولى أن تطلع الحكومة على تجارب دول أخرى فى العالم عن كيفية استغلال كنوزها الطبيعية بدلًا من إهمالها، عبر إنشاء منطقة صناعية مجاورة لها من ناحية، ومن الناحية الأخرى تقيم محطة للصرف الصحى، وبينهما يندثر ذلك الكنز الجيولوجى العريق»! هبوط أرضى ب«التكية المولوية» بالسيوفية يجعلها عرضة للحريق «رقص دائرى متواصل دون انقطاع على أنغام الأشعار الصوفية وإيقاع حفلات الذكر وروحانيات الحضرة يستمر لعدة ساعات، يدور خلالها الراقصون حول مركز الدائرة التى يقف فيها المنشد ويرددون خلفه ويندمجون معه فى مشاعر روحانية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحى والنقاء والسمو الربانى».. هكذا كانت طريقتهم فى توصيل هذا النوع من العشق الصوفى الجليل الذى يُعرف باسم «الطريقة المولوية»، الذى من أجله أُقيمت «التكية المولوية» بالسيوفية فى مصر القديمة، على مقربة من مستشفى الخليفة العام بمنطقة القلعة، على يمين المتجه إلى سبيل أم عباس، وعلى يسار السالك إلى شارع محمد علِى ومسجد الماس الحاجب. قديمًا كانوا يطلقون على الدراويش «أتباع المولويين» فى مصر، أكثر الطرق الصوفية تأثيرًا وانتشارًا تحت اسم «الجلاليون»، نسبة إلى القطب الصوفى الفارسى الشهير جلال الدين الرومى، ناظم ومؤلف معظم الأشعار التى تُنشد فى حلقة الذكر المولوية بالتكية، والذى عاش معظم حياته فى مدينة قونية التركية، ومنشئها هو الأمير شمس الدين سنقر السعدى، نقيب المماليك السلطانية، كل هذا قبل أن يبتكر الأديب العالمى نجيب محفوظ، رائعته الأدبية والتاريخية الرائعة «الحرافيش»، الأكثر اقترانًا بهم، حيث كانوا يقيمون لياليهم ويحتفلون بموالدهم عبر «تكية المولوية»، وهى أول مسرح غنائى فى الشرق الأوسط، كان الهدف من إقامتها إعداد الموائد للفقراء من «الحرافيش» وإيواء الصوفيين والمريدين المنقطعين للعبادة طوال العام. وتشتهر الطريقة المولوية بالتسامح الواضح مع المسلمين وغير المسلمين، أيًّا كانت معتقداتهم، وتتألَّف التكية من عدة أجنحة، منها المسجد والأضرحة والمدرسة المخصصة لتعليم الأطفال قراءة وحفظ القرآن الكريم والكتابة والخط العربى. تعد التكية المولوية أثرًا تاريخيًّا قديمًا من الحقبة المملوكية، مسجلة كأثر يحمل رقم «263»، ولكنه بُنى على أطلال ترجع إلى العصر الطولونى، ويعتبر هذا الأثر طبقات من تاريخ مصر المتراصّة فوق بعضها، ومجموعة معمارية تتكون من مدرسة الأمير سنقر السعدى، ثم مسرح «السمع خانة المولوى»، فضلًا عن ملحقات أخرى تم بناؤها فى حقب مختلفة لإقامة الدراويش وما يلزم التكية، وتوجد بدائرة قبتها نقوش بديعة بها مذكرة تاريخية وكتابات أخرى دينية، أبرزها «البسملة، ولمثل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا الله أيها الغافلون، وشمّروا أيها المقصرون، وأحسنوا البصر أيها المستبصرون، ما لكم لا يحزنكم دفع التراب، ولا يهولكم ميل الأتراب، ولا تعنون بنوازل الأحداث، ولا تستعدون لنزول الأجداث، ولا تستبصرون لعين تدمع، ولا تعتبرون بنص يسمع، ولا ترتاعون لأليف يُفقد، ولا تلتاعون لجنة تشهد وتشى». مؤخرًا، وفى غفلة من الزمن والمسؤولين، حدث بها هبوط أرضى مفاجئ، بما يهدّد سلامة ذلك الأثر النادر فى مصر، ويتسبّب فى تصدّع أعمدته وجدرانه الأثرية المنقوشة بالعبارات الصوفية البليغة المليئة بالروحانيات التى تسمو بالنفس، نتيجة ارتفاع منسوب المياه الجوفية بها بشكل كبير، وهو ما يؤثّر على وحدات الإضاءة والأسلاك الكهربائية بالموقع الأثرى، ويتسبَّب فى حدوث ماس كهربائى، فإذا تمت إضاءة المكان بالخطأ ستؤدّى إلى نشوب حريق هائل به. تقول الباحثة سالى سليمان، مؤسس حملة الحفاظ على تاريخ مصر الأثرى، إنه سبق أن تولى المركز الإيطالى عملية ترميم الجزء الأكبر من التكية على يد «مسيو فان فونى»، وهو ما أسهم بشكل كبير فى الحفاظ على معظم مراحل الأثر التاريخية طوال العقود الماضية، ولا يزال المشروع قائمًا حتى اليوم، ولم ينتهَ منه بعد، وفى انتظار تدخُّل الوزارة لاستمرار عمليات الترميم وإنقاذ التكية المولوية من الانهيار والإهمال والحريق المتكرر.