صحوت أمس من نومى وشىء ثقيل جاثم على صدرى.. ليس الكآبة الصباحية المعتادة وإنما كدر نفسى موجع ومؤلم.. لم أبحث عن أسباب، فكل ما حولنا الآن كئيب وكل أخبارنا سوداء بعدما سحقت «جماعة الشر» السرية أحلامنا الحلوة بقسوة وجعلت زمننا لزجًا، لكى لا أقول قذرًا.. قتل وتعذيب وحشى وكذب وبؤس وعربدة وخراب مستعجل وخيبة قوية على كل صعيد.. فما الذى يبهج إذن؟! ومن أين تأتى راحة النفس؟! وبقوة الواجب فحسب، جلست لأكتب هذه السطور على أمل أن يفتح المولى تعالى على عبده الغلبان ويبدّد تل الغم والكدر الراقدين على فؤاده، غير أنهما عاندا واستكبرا، فقمت وهربت إلى مكتبتى لا ألوى على شىء، ورحت أعبث فى الرفوف بغير ترتيب ولا تفكير إلى أن وقع بصرى على ديوان شاعر الإنسانية «التركى» العظيم ناظم حكمت «1902 - 1963»، الذى مات منفيًّا من وطنه، لأنه كافح وناضل والتزم بموقف صلب صارم ضد القهر والظلم والفاشية، وقد بقيت أعماله وإبداعاته الراقية منفية هى الأخرى ومحظورة فى تركيا لمدة خمسين عامًا كاملة. قلّبت فى الديوان وتجوّلت فى بساتينه الرائعة، حتى وجدت قصيدته الأشهر «أجمل البحار»، التى خاطب فيها «صغيرته» من خلف جدران سجن أمضى فيه 12 عامًا قبل أن يُقتَلع من وطنه ويتشرد فى ظلام النفى.. يقول ناظم حكمت: يا صغيرتى.. أجمل البحار.. هو ذلك الذى لم نسبح فيه بعد وأجمل الأطفال.. من لم يكبر بعد وأجمل أيامنا.. لم نعشها بعد وأجمل الزهور.. لم تتفتح بعد وأجمل القصائد.. لم أكتبها لك بعد وأجمل ما أود أن أقوله لكى.. لم أقله بعد يا صغيرتى.. إنهم هنا فى السجن بشر.. لكنهم بؤساء ماذا تفعلين الآن.. الآن فى هذه اللحظة؟ أأنت فى البيت؟ أم فى الشارع؟ مستلقية؟ أم واقفة؟ أم ربما ترفعين ذراعيكى.. إيه يا وردتى.. كم تكشف هذه الحركة فجأة معصمك الأبيض المستدير! ماذا تفعلين الآن.. الآن فى هذه اللحظة؟ تداعبين قطا يرقد فى حجرك؟ أو ربما هى تمشين.. ها هى قدمك أراها تتحرك آه من قدميك، قدميك الحبيبتين قدميك اللتين تمشيان على روحى قدميك اللتين تضيئان أيامى السوداء بمن تفكرين؟ بى؟ أم.. بالفاصولياء التى لم تشأ أن تنضج بعد أو ربما تتساءلين: لماذا قدر كثير من الناس أن يكونوا بؤساء لهذا الحد؟ ماذا تفعلين الآن.. الآن فى هذه الحظة؟ ما أسعد أن أفكر بكِ وأنا فى السجن.. عبر ضوضاء الموت والظفر وبعدما تجاوزت سن الأربعين ها أنا أرى فى شعرك استرخاء ثرى مدينتى «اسطنبول» صغيرتى.. سعادتى بحبك تشبه قيام إنسان آخر فى داخلى. ما أسعد أن أفكر بك وأكتب إليك وأتأملك مستلقية على ظهرك فى غرفة سجنى وأن أفكر بالكلمة التى قلتها فى اليوم الفلانى والموضوع الفلانى.. سوف أحفر لأجلك أشياء وأصنع أشياء علبة صغيرة.. وخاتمًا وأحيك ثلاثة أمتار من الحرير.. وفجأة سأندفع واقفًا.. وألقى بنفسى على قضبان نافذتى سوف أصرخ فى سماء الحرية الزرقاء كل ما كتبته لأجلك.. يا صغيرتى.. يا صغيرتى