اسمح لى أرجئ إلى الغد التعليق على واحدة من أظرف وقائع المسخرة الفاقعة التى نعيشها هذه الأيام، وأقصد «نصبة» الترويج الإعلانى التعبان التى نصبها نهار أول من أمس بضعة أفاخم غلابة من لجنة طبخ الدستور المشموم قبل ساعات من نهاية مهرجان تزوير الاستفتاء عليه، أما اليوم فبناء على طلب الجماهير، سأعيد مقال نشرته فى التوقيت والظروف نفسها الأسبوع الماضى: أكتب هذه السطور بينما مرحلة حاسمة من محاولة «جماعة الشر» وأتباعها البؤساء، اختطاف مصر دولة ومجتمعًا عبر استفتاء باطل على دستور مسموم ومشوّه كما الذين طبخوه فى الظلام، ما زالت دائرة ولم تسفر بعد عن نتائج.. فقط تبدو مؤشرات وعلامات واضحة تقطع بأن جحافل ضخمة من المصريين (النساء بالذات) يقاومون ببسالة وضراوة غير عابئين ببقع التزوير والتدليس التى ظهرت هنا وهناك، فضلا عن خطط التزهيق وإرهاق الناس التى يتبعها الأشرار، فى عدد ليس قليلا من لجان الاقتراع. لهذا ولأن المشهد ما زال يبدو أمامى محتدما يترجرج بعنف مكتوم، فإننى أستأذنك عزيزى القارئ أن أحكى لك حكاية ربما تجد فيها تسلية وعبرة، وشَبهًا أظنه كبيرا بين حال بطلها وحال الذين يحكموننا بالعافية حاليا.. فهيّا إلى الحدوتة: فى مرة من المرات التى استضافنى فيها نظام المخلوع أفندى وولده وعصابته فى سجونه (لا أستبعد عودة مثل هذا النوع من الاستضافات لو لا قدر الله طال عمر نظام «الذراع» وجماعته) كان ضمن زحام النماذج البشرية التى حُشرت معها خلف أسوار الحبس، رجل مسكين تتميز سماته الشخصية بخليط غريب ونادر يجمع بين الغباء الشديد وقدر غير قليل من الشر، لكنه شر مغلّف دائما بشىء من عبط وسذاجة وجلافة ممعنة فى البدائية. فأما جلافة صاحبنا هذا فقد كانت تتفاقم وتهيج أحيانا حتى تصير جموحا فى هوج وطيش يدفعانه إلى اقتراف صغائر مفرطة فى التفاهة والحماقة، لعل أشهر تجلياتها وأكثرها خبلا وكوميدية تلك الرغبة العجيبة التى تملّكته ذات يوم فجأة أن يفرض نفسه غصبا وبقوة التباتة والغلاسة فحسب شيخا ومؤذنا فى سكان العنبر، لكى يقوموا للصلاة خلفه كلما حلّ موعد أى أذان (عدا أذان الفجر لأنه يكون نائما)، ولم تفلح كل محاولات رده عن هذا البغى الشنيع، وظل الأخ «عنتر اللَّطخ» ينتفض جاريا عند باب العنبر ويلوث بالعافية مسامعنا بينما هو يرفع عقيرته (أو «جعورته») الرهيبة القبيحة جدا مؤذّنًا، بمجرد أن يسمع صوت ميكروفون جامع السجن يطقطق تمهيدا لإذاعة أذان الصلاة منقولا عن محطات الإذاعة!! لعلك لاحظت فى الفقرة السابقة لقب «اللَّطخ» الملتصق باسم هذا الرجل، ويهمنى توضيح أن اللقب ذاك ليس رسميا ولا مكتوبا فى شهادة ميلاد عنتر، وإنما اكتسبه بجهده وكدّه واجتهاده فى الغباوة والحماقة، وقد كان للعبد لله ولا فخر شرف تتويجه «لطخا» ذات مساء، عندما كان خاله الطيب قد زاره زيارة نادرة فجلس بهدوء ووداعة يحكى قصة دخوله السجن، وقد بدا الرجل صادقا جدا فى الحكاية (ربما بسبب انخفاض قدراته العقلية) التى ملخصها أنه بدأ حياته العملية كهربائيا فى إحدى الشركات، فلما تزوج ورزق عيالا كثيرين بدأ يشعر بضيق الحال، لهذا قرر المشى فى أى سبيل لكى يحسّن دخله ويوسّع رزقه، وقد نظر الرجل حوله فلم يجد أفضل من العمل فى بيع المخدرات.. وهكذا عقد العزم على أن يكون فى الصبح كهربائيا وبعد الظهر «مخدراتيا» يُشار إليه بالبنان، وبالفعل راح يبحث ويلطش ذات اليمين وذات اليسار إلى أن دله بعض أولاد الحرام على تاجر مخدرات قطاعى يريد «سريحة» يسرحون بالبضاعة الحرام، غير أن التاجر لما قابله شك فى قدراته فاكتفى بمنحه بضع قطع قليلة من «الحشيش»، ورغم أنه نبه عليه بضرورة الاحتياط وسكب على مسامعه خلاصة خبرته، فإن اللَّطخ وقع من أول زبون وأول قطعة يبيعها، إذ تبين بعد فوات الأوان أن المشترى ليس إلا مخبرا مشهورا ومعروفا لدى أغلب سكان المنطقة عدا الأخ عنتر. طبعا، دخل عنتر السجن بعدما سكعته المحكمة حكما بسبع سنوات فقط، لأن كمية المخدرات التى ضُبطت بحوزته لم تكن كافية لإثبات تهمة الاتجار، وإنما تكفى جريمة «التعاطى».. أمضى الرجل مدة العقوبة هذه وخرج، ولكنه كان قد فُصل من عمله الكهربائى وباتت أوضاعه المادية لا تسر عدوا ولا حبيبا، لهذا ما إن استراح قليلا واغتسل ونام ليلته قرير العين فى حضن العيال، حتى راح يسعى من جديد بحثا عن تاجر المخدرات القطاعى الذى تعاون معه يوما واحدا قبل أن يدخل السجن، بيد أنه لم يعثر عليه ولكن لحسن حظه أهدته الأقدار تاجرا آخر ظن أن عنتر موزع «لقطة» فهو مُدرَّب وجاهز ومعه شهادة «سوابق» رسمية، ولهذا منحه كمية ليست قليلة من الحشيش حتى يوزعها.. ولم يُضِع اللَّطخ وقتا فانطلق إلى العمل فورا لا سيما وقد برز له فى الطريق زبون ممتاز ابتاع منه نصف الكمية مرة واحدة، غير أنه لم يدفع الحساب بل قفشه من قفاه وجرجره، بمساعدة «أورطة» كبيرة من الأمناء والمخبرين، إلى قسم البوليس.. عندها تبين له أن الزبون هذا ضابط كبير فى إدارة مكافحة المخدرات، اصطاده وصنع له قضية متكاملة الأركان اتسكع بسببها حكما جديدا بالسجن 15 سنة، ليس لأنه باع مخدرات فهو لم يبع شيئا فى الواقع، وإنما لأنه أحمق وغبى وحمار جدا مثل القطيع الذى يكبس على أنفاس أهالينا الآن.