عندى مما أقوله الكثير جدا بشأن دلالات ومعانى تلك الجريمة الفاجرة المنحطَّة التى توقّعت وتوقّع كثيرون غيرى، أن ترتكبها «جماعة الشر» بهدف تزوير وتزيف إرادة شعب مصر الذى نزل عن بَكْرة أبيه أول من أمس -نساؤه قبل رجاله- مسلحا بعزيمة لا تلين وإصرار جبار على إفشال محاولة خطف مصر وسلخها من جلد هويتها وتجريدها من ميراث حضارتها التليدة وإغراقها فى مستنقع التخلف والقهر والظلام عبر دستور فاسد مشموم فبركوه فى ظلمات تشبه عقولهم.. غير أننى أعترف بأن الغضب والقرف منعانى من الكتابة فاضطُررت إلى الاستعانة بكلام قديم أظنه مناسبا إلى حد ما للأجواء الحالية، بيد أنه بسبب الزمن، قد يبدو لك ناقصا وأقل حرارة، لكن أرجوك اقرأه وتَمعَّن فيه لتعرف أن الكارثة الوطنية غير المسبوقة المتمددة على صدورنا الآن كانت مقدماتها واضحة وتخزق عين الأعمى، بيد أن بعض الغلابة فى عقولهم -دعك من النصابين وحفنة الصراصير البيضاء- اختاروا العمى بإرادتهم الحرة. لقد كتبت منذ أكثر من عام تقريبا، أن «بعض الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام ويتلفعون بعباءته الجليلة بينما هم يلعبون بالسياسية فى حوارى البلاد، هؤلاء تجدهم يحاصرون ويُضِيقون على خلق الله تضييقا شديدا ويرمون بالحرام والتحريم كل شىء فى الحياة تقريبا، ومع ذلك يدهشك أنهم على تزمُّتهم وظلام وخواء عقولهم، ذممهم تتسع أحيانا وترتخى وتختل معايير الاستقامة والنزاهة عندهم إلى درجة التناقض الفاحش مع ضمير وأخلاق المتدين الحق أيًّا كان دينه، فضلا عن أن يكون هذا الدين هو الإسلام...»! هذه الكلمات نشرتها من سنوات بعيدة، غير أن المعنى الراقد فيها ظل مع مرور الزمن يتأكد ويتكرر ويتواتر وتتسع دائرة انطباقه على تصرفات وسلوكيات ومواقف لا حصر لها حتى صرت أشعر بأننى لا بد أن أعتذر عن كلمة «بعض» التى بدأت بها هذه السطور القديمة.. فأما الجديد الذى دفعنى وحفزنى لاستحضارها والتنقيب عنها فى أوراقى فهو هذه القائمة الطويلة من الخروقات الفظّة والجرائم والانتهاكات الخطيرة للمعايير والمحظورات الانتخابية التى أجمعت تقارير هيئات ومنظمات قانونية وحقوقية مرموقة على أن الجماعات والأحزاب الدينية (سبعة أحزاب فى عين العدو وعين القانون معا) احتكرت اقترافها لوحدها تقريبا، قبل وفى أثناء عملية الاقتراع الأخيرة لاختيار أعضاء البرلمان العجيب المنتظَر. وحسب التقارير المذكورة فإن هذه الخروقات والانتهاكات تعددت وتنوعت صورها تنوعا شديدا، وكان أكثرها شيوعا وسفورا كسر الحظر القانونى للدعاية الانتخابية فى فترة «الصمت الدعائى» الممتدة من اليوم السابق لبدء الاقتراع حتى نهايته، بل وممارسة دعايات وملاحقات وغلاسات فجة للناخبين داخل مقرات لجان التصويت، وكذلك استخدام الشعارت الدينية بكثافة مفزعة واستهداف المنافسين، أحزابا وأفرادا، بشائعات سوداء وأكاذيب واطية تتوافر فى أغلبها أركان جريمة التشهير والتحريض الطائفيَّين! لكن بعض حوادث الخرق والانتهاك للقانون وأصول ومعايير النزاهة وصلت فى الفحش والبشاعة لدرجة التورط فى عمليات شراء ذمم الناس الغلابة واستغلال إجرامى لبؤسهم ورشوتهم برِشًى تافهة مقابل اختلاس أصواتهم، بل وصل الأمر إلى ممارسة عمليات تزوير مادى مباشر وفاجر جدا! ماذا تعنى هذه السلوكيات والممارسات الفظة الشاذة التى تستحضر إلى الأذهان أسوأ ذكريات وأوسخ ممارسات نظام المخلوع أفندى وولده، التى تقترفها الآن جماعات وعصابات وأناس ليس لديهم ما يقولونه فى السياسة التى اقتحموها بغشم وتهور، سوى الكلام والهلفطة طول الوقت عن الأخلاق والعفة والفضيلة؟! هناك معنيان لا ثالث لهما: الأول أن هؤلاء فى العمق لا يؤمنون حقيقة بشىء مما يقولونه وأن الأمر كله مجرد «سبوبة»، استرزاق سياسى (ومادى أيضا) والسلام.. والثانى أنهم قوم مساكين ويستحقون الشفقة ربما أكثر مما يثيرون القرف، إذ يبدو أنهم يعانون من «موت ضميرىّ» أو على الأقل مصابون بحالة «برانويا» أو فصام أخلاقى مستفحلة ومتأخرة تتفاقم وتتغذى من تبريرات وتأويلات فقهية جاهلة ومنحرفة اخترع أصحابها فكرة «الاستحلال» التى رأينا تطبيقاتها الإجرامية فى تسعينيات القرن الماضى عندما كان بعض هذه الجماعات (المتمتعة حاليا برخص حزبية رسمية) تخوض ضد المجتمع حرب إرهاب وقتل مروعة وعبثية وكانت تسوِّغ آنذاك انتهاكاتها الوحشية لحرمة دماء وأموال الأبرياء بأن هؤلاء «كفار» يحل قتلهم وسرقت أموالهم و... تشويه إرادتهم السياسية، وتزوير أصواتهم الانتخابية كذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله.