استيقظت على رسالة من أحد الأصدقاء يذكرنى بكلام قلته وكررته كثيرا بخصوص أنه لا أحد كان يتوقع الثورة، ولا حتى من خرجوا إلى الشارع يوم 28 يناير، وعن اندهاشى من قدرة البعض على تأكيد أنه كان يعرف أن الثورة قادمة، قال لى صديقى «ماتفتريش على الناس اللى كانت متوقعة الثورة، لأنك كنت واحداً منهم، راجع مقال (ثورة الشك) فى الدستور القديم». قبل أن أغسل وجهى قمت إلى ملفاتى بحثا عن هذا المقال (كان منشورا بجريدة «الدستور» بتاريخ 21 يوليو 2010 قبل الثورة بستة أشهر.. أتركك معه يا صديقى مع التأكيد على أنه حتى أنا شخصيا عندما كتبت هذا المقال كان هناك سقف لتوقعاتى تجاوزته ثورة 25 بكثير.. كان لدى الكاتب خيال ما، وكان لدى الثورة ما هو أبعد من هذا الخيال). ثورة الشك فتحت الراديو فوجدت المذيعة تخبرنى بأنى سأستمع الآن لأغنية «ثورة الشك» لأم كلثوم، اندهشت مرتين، الأولى لأن «روتانا» لم تأخذ هذه القصيدة ضمن ما اشترته من تراثنا الغنائى، والثانية لأننى لم أكن أتوقع أن أستمع لكلمة «ثورة» على لسان مذيعة حكومية. إنها «ثورة الشك» بلا جدال، صدقت المذيعة وصدق الشاعر عبد الله الفيصل، إذا كانت هناك ثورة فلن تكون ثورة الجوع، فالحقيقة أنه لا أحد يموت جوعا بيننا، لا لأن الحكومة تراعى الفقراء، ولكن لأنه ما زال فى قلوب المصريين بعض رحمة وتعاطف، والشعب يحمل هم بعضه قدر استطاعته، فرادى وجماعات وهيئات خيرية وبنوك للطعام وأسر ميسورة أو متوسطة الحال وشباب جامعى وجمعيات تابعة للمساجد والكنائس، برامج توك شو تعرض حالات إنسانية وتجمع تبرعات على الهواء للعلاج والتعليم والسفر للعمرة، فكهانى يهادى عمال النظافة ببعض الفاكهة، جزار يتصدق على سيدة فقيرة بنصف كيلو لحم وبعض المواسير، أسرة تشارك البواب والسايس والشغالة بعضا من طعامها الطازج، باب للخير فى صحيفة هنا ومجلة هناك، لن يموت فى هذا البلد شخص جائع.. إلا الطعام.. المصرى لا يستسيغ طعاما وهو يعرف أحدا فى محيط حياته يتضور جوعا. لن تكون ثورة الظلم، فنحن أرباب نظرية «يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم» نحن نحتضن المظلوم بطريقتنا ونعوضه خيرا ونمنحه تقديرا ربما لم يكن يحصل عليه لو حصل على حقه عادى، وستجدنا نمنح بريقا ما للاعب الحريف الذى لا يحصل على فرصة أو الفنان الموهوب سيئ الحظ أو الشخص المحترم الذى كان عمره فى الحياة قصيرا. لكنها ستكون ثورة الشك، الشك فى كل من يوجد داخل المنظومة الحكومية أو الرسمية، شك يبدأ بالمناصب الكبيرة ويمر بمذيع النشرة ولا يتوقف عند «عوض النخبر» الذى انهال بباكتة البانجو ضربا على خالد سعيد فهشم رأسه، شك فى أن تحصل على فرصة عادلة، شك فى أن تلجأ إلى القضاء فينصفك، شك فى أن تلجأ إلى الشرطة فتحميك، شك فى من نجحوا واحتلوا مناصب كبيرة، شك فى وجود طابور خامس يتلف الحياة فى مصر ببطء، شك فى حملة الأقلام، شك فى الطبيب الذى تقع تحت يديه، شك فى مدى صلاحية ما تأكله للاستهلاك الآدمى، شك فى أن تعيش حياة آمنة فلا يبدد سلامك شخص مسنود أو مدير فاسد أو جار يتفنن فى إيذائك أو متطفل يسرق فرصة تستحقها، شك فى تقرير الطبيب الشرعى، وفى بيان وزارة الداخلية، وفى حقيقة الصراع بين المحامين والقضاة ونزاهة رجال اتحاد الكرة وحرص المسؤولين على مصالح الوطن الداخلية والخارجية وصدق الوعود الحكومية ومبررات المقصرين وصفاء ضمير علماء الدين. المصريون الآن يعيشون فى مرحلة الشك العاصف بعد أن فقدوا الثقة فى كل من يتحدث إليهم أو يتحدث بالنيابة عنهم، وطال الشك حتى من كنا نؤمن بأنهم محل ثقة، أصبح المصرى يخرج من منزله وهو (مخون) ويتوقع الضربة من أى اتجاه.. إنه جحيم أكبر من جحيم الفقر والظلم، لو كنت مكان أى مسؤول مصرى لشعرت بالخوف الشديد، فالمصرى الآن (يشك) فى كل من يوجد داخل المنظومة.. لكنها مجرد مسألة وقت وسيبدأ فى (الشك) عليه.