ابتلانا الذى لا رادّ لقضائه وقدره بذكور أصواتهم جهيرة وكلمتهم مسموعة، هؤلاء الذكور لا يشغلهم شىء سوى مطاردة النساء بسياط الحرام، ملابس النساء عندهم حرام، ومشيهن حرام، وكلامهن حرام، وأصواتهن حرام، لقد استغرقوا فى تحريم كل ما يتعلق بالنساء حتى كادوا أن يحرموا المرأة رأسا. ومن العجيب أن متعقبى النساء هؤلاء تجد الواحد منهم وله الزوجة والزوجتان وأحيانا الزوجات الأربع، وقد يفكر فى ملك اليمين!! وإذا حاولت مناقشة أحدهم لتبين له فساد رأيه صاحَ فى وجهك ذاكرًا فلانة الراقصة وعلانة المخمورة، كأن تاريخنا لم ينجب سمية. مكة موعدنا حفظ التاريخ أسماء ثلاثة من أولاد شيخ يمنى يدعى عامر بن مالك، من قبيلة مذحج اليمنية، الولد الأول اسمه «الحارث»، والثانى اسمه «مالك»، والثالث اسمه «ياسر». الإخوة الثلاثة انطلقوا من اليمن يطوفون بالبلاد، باحثين عن أخ لهم رابع سقط فى متاهة صحراء جزيرة العرب، كما سقط اسمه من كتب التاريخ. بحث الثلاثة عن رابعهم ما شاء لهم الله أن يبحثوا، فلم يجدوا له أثرًا، أقاموا بمكة التى كانت علامة على نهاية طوافهم بالبلاد، اثنان من الثلاثة هما مالك والحارث، لم تطب لهما الإقامة بمكة، فعادا إلى اليمن، الثالث ياسر، لم يبرح مكة مذ دخلها حتى غادرها إلى قبره، ما الذى جعل العربى اليمنى لا يعود إلى بلاد الآباء والأجداد، ويفضل الغربة على مصاحبة الأهل وحماية القبيلة؟ إنه القدر الذى يدخر لياسر دورا بارزا بين رجال سيغيرون وجه الكرة الأرضية. الحليف كان من عادات العرب أن الرجل متى ترك أهله وأقام فى بلد بعيد، يتخير من أهلها رجلا يحالفه ويبسط عليه حمايته، وقد اختار ياسر بن عامر محالفة أبى حذيفة المخزومى، قبيلة خالد بن الوليد وبرجوازية قريش، كما أسماها الأستاذ العقاد. الحليف ليس صديقا كما أنه ليس خادما، إنه فى منزلة بين المنزلتين، وإن كان فى كل الأحوال تابعا للسيد الذى نزل بجواره واستظل بحمايته. لكى تكتمل حلقات القدر فقد أحب أبو حذيفة ياسر بن عامر، حتى إنه وافق على أن يتزوج ياسر من أمَته سمية. لم أجد فى ما بين يدىّ من كتب كتابين يتفقان على صحة اسمها، بعضهم يقول سمية بنت خباط، دون تشديد للباء، وبعضهم يشدد باء خباط، وآخرون يضيفون أل إلى خباط فتصبح الخباط، وفريق يقول سمية بنت خياط، وفريق يقول بنت الخياط!! هل الذين كتبوا تاريخنا القديم كانوا من الذين يحرمون النساء؟ كيف لم يهتموا بنسب هذه السيدة الجليلة التى ستصبح زوجا لجليل وأمًّا لجليل. هل استكثروا عليها بطولتها وشجاعتها؟ لقد خفت من الخطأ فى نسبها فنسبتها إلى ابنها الصحابى الجليل عمار بن ياسر، أما هؤلاء الذين أرخوا لها فى عجالة، فقد خسرت كتبهم فصولا كان يجب أن تتألق بتفاصيل حياة هذه السيدة الجليلة. ولكن صبرا آل ياسر فهذه ملحمة كتبت عليكم، تظلمون أحياء وأمواتا، ثم ينتصر الله لكم، هو مولاكم ونعم النصير. عاش الزوجان ياسر وسمية سعيدين ورزقهما الله بابنهما عمار، فزادهما مولده سعادة فوق سعادتهما. كبر عمار وشبَّ عن الطوق، وسمع بدعوة الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، هبطت الدعوة المحمدية بجلال بهائها على قلب عمار فأضاءته، أسرع عمار بضوء قلبه إلى أبيه وأمه، اللذين كانا فى شوق حقيقى لدولة العدل والنور والمساواة. أسلم الجميع، الولد والأبوان، أخيرا جرى إنصاف سمية الجليلة عليها الرضوان، عندما يؤكد كل الذين ترجموا لها بأنها كانت سابع سبعة أعلنوا إسلامهم وجهروا به. الريح المعاكسة كأن من طبائع الحياة أن تأتى الريح دائما بما لا تشتهى السفن، لقد مات أبو حذيفة حليف ياسر، فأصبح ياسر وآله فى مهب الرياح، لا مانع يمنعهم ولا حماية يستظلون بها، مات أبو حذيفة فى تلك الأيام التى اشتدت فيها عداوة قريش لكل الذين تبعوا النور المحمدى. كان من حظ ياسر وآله أن أبا جهل ساد بنى مخزوم بعد وفاة أبى حذيفة، وجهل وغطرسة وكفر أبى جهل أشهر من أن نشير إليها، الرجل كان طامعا فى النبوة أو على الأقل أن يتم توزيع النبوة كما توزع غنائم الحرب، فيأخذ بنو هاشم حصتهم منها ويأخذ بنو مخزوم حصتهم منها، هكذا كان يرى أبو جهل الأمور، أما وقد تبين له أن النبوة لا توزع ولا يتم تقسيمها، فقد عاند وتجبر وتكبر، وراح يصب نقمته على المؤمنين بدعوة محمد، فإن كان المؤمن من السادة راح يعنفه ويوبخه عاتبا عليه ترك دين الآباء والأجداد واتباع دين جديد يدعو إليه فتى من فتيان بنى هاشم. أما لو كان المؤمن من المستضعفين فى الأرض فإن أحدا لن يستطيع الوقوف فى وجه أبى جهل، الذى سيصب غضبه وتعذيبه على رأس وقلب كل مستضعف. آل ياسر جميعا يخضعون لحفلات تعذيب يقودها أبو جهل، يمر بهم الصادق الأمين فيقول لهم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». تحت وطأة التعذيب ينهار عمار ويثبت ياسر وسمية، سمية التى لا تكف عن ذكر الله، وهى تحت سياط أبى جهل، كانوا كلما زادوا فى عذابها ارتفع صوتها بذكر الله وإعلان البراءة من الشرك والأصنام. عندما انهار عمار تلفظ بلفظ فيه تجاوز فى حق الرسول وفيه مديح لآلهة القوم فتركوه، فخرج يسعى حتى ذهب إلى الرسول فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال عمار: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال الرسول: كيف تجد قلبك؟ قال عمار: مطمئنا بالإيمان. قال الرسول: إن عادوا فعد. فنزلت فى عمار الآية الكريمة: «مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». وفى موضوع آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((مُلئَ عَمَّارٌ أيمانا إلى مُشَاشِه). وجليل المُشاش من صفاته صلى الله عليه وسلم، ومعناها أنه كان عظيم رؤوسِ العِظام كالمِرْفَقَيْن والكَتِفين والرُّكبتين. سمية التى لا نعرف يقينا نسبها كانت سيدة من سيدات التحدى والمقاومة حتى النفس الأخير، كانت مقاومتها تغيظ أبا جهل، فمن تكون سمية حتى تتحدى بإيمانها سيد بنى مخزوم. اللقطة الأخيرة فى حياة السيدة الجليلة لم تأخذ كالعادة حقها من التفصيل، كل ما ستعرفه أن أبا جهل قد جن جنونه ذات يوم من صمود سمية فطعنها بحربة، مرة يقولون إنه طعنها فى فرجها، ومرة يقولون بل طعنها فى قلبها. أيا كان موضع الطعن فقد لقيت ربها شهيدة فور طعنها لتكتب انتصارا جديا للدم على السيف، لقد ذهب أبو جهل إلى العدم، وبقيت سمية سيدة للتحدى.