لقد مَنَّ الله علينا بإدراك شهر رمضان خير الشهور، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شرٌّ لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، وهو غُنمٌ للمؤمن، ونقمةٌ للفاجر»، ففى الحديث إشارة إلى طائفة من الناس يدخل عليهم رمضان ولا تتغير أخلاقهم ولا سلوكياتهم، بل على العكس لا يزيدهم رمضان من الله إلا بُعدًا، وهؤلاء هم المنافقون الذين يكرهون رمضان، ويسعون فيه فسادًا وإفسادًا وتثبيطًا للهمة بين الناس. وعن سلمان الفارسى رضى الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم من شعبان فقال: «يا أيها الناس! قد أظلَّكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة وشهر المساواة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، ومن فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شىء. قالوا: يا رسول الله ! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال: يعطى الله هذا الثواب من فطر على مذقة لبن، أو تمرة، أو شربة ماء، ومن أشبع صائمًا سقاه الله من الحوض شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال؛ خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما؛ فتسألون الجنة، وتعوذون من النار، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضى شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة». ولقد حثَّنا النبى صلى الله عليه وسلم فى غير موضع على اغتنام الطاعات، وعرفنا أن شهر رمضان هو فرصة عظيمة لمن يبغى الإقبال على الله واغتنام الخيرات، فقد هيأ الله لنا فى رمضان أسباب الطاعة، وفتح لنا بابًا للتنافس فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى منادٍ: يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة». ومن الفلاح أن يجتهد الصائم فى اغتنام شهر رمضان بما يزيده قربًا من الله، فيراقب الله فى صيامه ويمسك جوارحه عن الزلل، ويحيى ليل رمضان بالقيام والاستغفار والمناجاة وقراءة القرآن طلبًا لمرضاة الله ومغفرته، قال صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». فشهر رمضان ثوابه عظيم، يقدره من أبصر الخير، واستمع لنداء البر وهو ينادى: يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر، فيستجيب الخيرون لداعى الخير، ويجتهدون فى كل سبيل لإصلاح أنفسهم ومجاهدتها، وكذلك نفع البلاد والعباد فيراعون الله فى وظائفهم وأعمالهم فلا يتراخون فى أداء وظائفهم بحجة أنهم صائمون، فإن الله سبحانه وتعالى يثيب على النافلة ثواب الفريضة، وعلى الفريضة سبعين فريضة، فإتقان العمل والالتزام بقواعده من مواعيد الحضور والانصراف، ودقة الأداء واجب يمليه الشرع ويأمر به يقول تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله فى العون العبد ما دام العبد فى عون أخيه». والصوم جُنَّة -أى وقاية- هكذا وصف النبى صلى الله عليه وسلم الصيام، فكانت كلمة جامعة لكل فضائله، فالصوم وقاية من الأمراض الجسدية ووقاية من المتاعب النفسية، بل ووقاية من المشكلات المجتمعية أيضا، فالوقاية من الأمراض الجسدية جاءت الإشارة إليها فى قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا»، وثبت طبيًّا فوائد الصيام الجمة، وآثاره الإيجابية على الجسم البشرى، وفطن الغرب لذلك، ففى العام 2013 تصدَّر كتاب «حمية الصوم» قائمة الكتب الأكثر مبيعًا فى بريطانيا والولايات المتحدة، وأعيدت طباعته أكثر من 12 مرة. اعتمد نظام حمية الصوم على دراسات لعلماء بريطانيين وأمريكيين وجدوا أن الصوم المتقطع يساعد الناس على فقدان دهون أكثر وزيادة حساسية الجسم للأنسولين والحد من الكوليسترول، وهو ما يعنى تقليل خطر الإصابة بأمراض القلب والبول السكرى، بل قد يساعد على الحد من خطر أمراض السرطان المرتبطة بالسمنة، مثل سرطان الثدى، حسب الكتاب. أما الوقاية من المتاعب النفسية والمشكلات المجتمعية فنجدها فى الحديث الشريف الذى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إنى صائم مرتين، والذى نفسى بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى، الصيام لى وأنا أجزى به والحسنة بعشر أمثالها». فبتطبيق معنى الصوم الحقيقى الذى أرشدنا إليه النبى صلى الله عليه وسلم يكون الصوم «جُنَّة» بحق، فهو ينقى الصدور والقلوب من الأحقاد والشحناء والبغضاء وهوى النفس والأخلاق الذميمة، ليعيش أفراد المجتمع المسلم متحابين مترابطين، لا يعكر صفو معيشتهم شىء. كما أن الصوم جُنَّة ووقاية من نار الآخرة، إذا ما التزم الصائم وارتقى بنفسه إلى الأخلاق الحميدة فلم يرفث ولم يفسق ولم يشاحن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة من النار كجُنَّة أحدكم من القتال»، فلقد جمع الصوم من المنافع الكثير والكثير، وكلما تمعنا فى معنى الصيام والحكمة منه والآداب والأحكام المتعلقة به، وجدنا فائدة جديدة من فوائد الصوم كانت غائبة عنا.