■ ■ فى المقال السابق نقلت للقراء الأعزاء واحدا من ملامح التجربة الصينية، وكان عن منح المواطنين الصينيين حقوقهم المدنية بناء على مقر إقامتهم الأصلى، مثل التأمين الصحى والتعليم المجانى والقروض وغيرها من حقوق مدنية، بحيث -وفى حدود معينة– إن القانون قد يحرم من يهجر قريته إلى المدينة من تلك الحقوق، وقد جاء ذلك بنتائج إيجابية، ليس فقط تحجيم النزوح من الريف إلى المدن الكبرى وبالتالى الحد من ترييف المدن. وإنما أيضا ساعد بقاء المواطنين فى قراهم على نمو النشاط الاقتصادى فى مناطقهم الريفية، إما لأن المستثمرين بتشجيع من الحكومة جاؤوا إلى القرى وأنشؤوا مصانع ومشاريع إنتاجية، فتوفرت فرص العمل، وإما لأن المواطنين أنفسهم -وبتشجيع حكومى أيضا- اجتهدوا لابتكار أنشطة اقتصادية ذاتية فى قراهم.. حتى لا يخسروا امتيازاتهم.. بحيث أصبح سكان الريف لديهم الأمل فى الإنتاج وتوفير احتياجاتهم وتحقيق ذواتهم. وكان أهم عامل فى نجاح ذلك هو خطط الحكومة، فالحكومة الصينية لم ترفع العصا للنازحين إلى المدن.. إنما قدمت لهم فى قراهم -حتى النائية منها- خدمات هى أصلا حقهم كمواطنين، ومن ذلك فإن ستمئة ألف قرية صينية تبعد آلاف الكيلومترات عن العاصمة بكين تتمتع كلها بخدمات الإنترنت.. الحكومة أولا إذن! ■ ■ اليوم أنقل لكم تجربة أخرى رأيتها فى الصين يسمونها «الأسر المنتجة». ما يثير الأسى حقا هو أن مصر فى عهد عبد الناصر كانت قد بدأت تجربة مماثلة.. لكنها ككل شىء فى مصر.. توقفت! ولم تنضج أو تكتمل.. بل فشلت! لأن الحكومات المصرية المتعاقبة صارت تكره المواطنين بالفعل! ولا تطيق أن تقدم لهم.. لا خدمات ولا حقوقا! ما علينا.. الصين عندما قررت التخلى عن الشيوعية وبدء النهوض بطريقة رأسمالية وأعلنت ما سمته «سياسة الانفتاح والإصلاح»، وكان ذلك فى أوائل الثمانينيات، بدأت أول شىء، أول شىء.. بالريف! نعم بالريف.. وليس بأبراج تنطح السحاب! فبعد قرار اللجنة المركزية للحزب الحاكم اعتماد النظام الرأسمالى أواخر السبعينيات، توجه الرئيس الصينى فى زيارة إلى الجنوب الصينى.. حيث المناطق الريفية الشاسعة، وأعلن من هناك خطط الحكومة لتحويل الأسر الريفية إلى أسر منتجة.. تنتج فى دارها وتشترى منها الشركات كل ما تنتج.. كبر هذا المشروع فى سنوات قليلة جدا.. وكان هو بحق نواة الصين التى نعرفها اليوم.. الصين التى تنتج كل شىء تحتاج إليه البشرية! وتغزو منتجاتها كل أسواق العالم بلا استثناء.. الصين التى يخاف العالم الآن من قوتها الاقتصادية.. بدأت جبروتها الاقتصادى بمشروع الأسر المنتجة فى الريف الصينى! ■ ■ منذ سنوات قليلة وبعد الثورة فى مصر.. ترددت أخبار فى وزارات الزراعة المتعاقبة عن الاستعداد لإطلاق مشروع «المنزل المنتج»، لكن بالطبع ككل شىء فى مصر.. صمت تام! لا حس ولا خبر! والوزراء يتغيرون كل يوم والتصريحات الإعلامية تنتشر فى الهواء فى كل اتجاه.. لكن.. جعجعة بلا طحين، وربما كان السبب -من وجهة نظرى- أن مشروع «المنزل المنتج» ليس شيئا تطبقه وزارة أو هيئة.. هذا مشروع نهضوى كبير لا بد أن تكون وراءه الدولة بكل قوتها.. وليس مجرد وزير بائس لا يعرف إن كان سيأتى إلى مكتبه صباح اليوم التالى! ■ ■ يمكن لمشروع «المنزل المنتج» أن يحقق لمصر ثباتا اقتصاديا ويخرج بها من دائرة الخطر فى أقل من سنتين.. فالنشاط الاقتصادى للمنزل الريفى المنتج سوف يعم كل أرجاء ريف وصعيد مصر، ستتناقص البطالة وسوف تتوفر سلع «صنعت فى مصر» للشعب كله، وسوف يتراجع الإرهاب الناتج عن اليأس، وسينشغل الجميع فى الإنتاج، وإذا كان هناك إشراف وتنسيق من الدولة فهذا يعنى أن إنتاجا صناعيا صغيرا سيتشكل «فى منازلهم»! وسيكبر، إنما هو مشروع لا بد أن تتبناه الدولة المصرية، فهو مشروع اجتماعى وطنى كبير.. لكن للأسف وهذا انطباع شخصى على كل حال.. غالبا ما أشعر أن رجال الدولة المصرية «يتأففون» من الشعب المصرى! ومثل هؤلاء لن ينهضوا بشعبهم أبدًا.. ذكرونى أن أحكى لكم فى مقالات قادمة عن جواهر لال نهرو.. ذلك الرجل البديع.. كيف كان ينظر إلى شعبه الهندى الفقير الحافى وهو المتعلم فى بريطانيا والزعيم السياسى الكبير.. نحن فعلا شعب بائس برجال دولته.. ■ ■ رأيت بنفسى كيف أن مشروعا يعتمد على أهل الريف كان هو اللبنة الأولى فى بناء عملاق الصين الذى يحير العالم! وحلمت أن يعود من جديد إلى الأضواء مشروع مصر عن «المنزل المنتج» أو علاج أوجه فشل مشروع «الأسر المنتجة»، وما زلت أحلم.. فالحلم آخر ما يموت، كما تقول حكمة روسية، لذلك وتحت ضغط الحلم فإن ثمة سؤالاً واحداً موجهاً لأى مسؤول فى هذا البلد المحتاس.. أو لأى من هؤلاء الوزراء الفشلة: فى أى درج أو أى سلة مهملات ألقى بأوراق مشروع «المنزل المنتج» فى عموم القطر المصرى؟! لماذا يا سبب بؤسنا أوقفتم خطة: النهضة من منازلهم؟!