عندما تندلع حملة ضد حرية الفكر والتطرف والمزايدة الدينية، تنبرى طبقة المثقفين والنشطاء فى التعبير عن غضبهم، وإعلان مواقفهم الرافضة والمنددة. يرددون علينا قصص التاريخ الحافلة بصور حرية الفكر والاختلاف والحوار العقلى والجدل الحر المحترم بين الأفكار المختلفة، وحكايات الطفولة التى شهدت صورا متعددة للتآخى والتآلف الوطنى، وكيف نشأنا لدى الجيران المسيحيين أو العكس وتشاركنا الأفراح والأحزان، لكن يعجزون عن التدليل بمواقفهم على احترامهم المطلق للاختلاف وحرية الرأى والموقف. المثقف هو طليعة المجتمع، به يقتدى الناس ويوجهون، وبما له من مكانة تمكنه من التأثير، لذا بات من المهم أن نراجع مواقف وتوجهات المثقفين فى ما يتعلق بأحداث التطرف والغلو والتكفير. الإشكالية الرئيسية هى صعوبة وضع قائمة «مثقفين»، ينتمون إلى قيم (كالحرية والمساواة والاحترام والحقوق والمواطنة) ويروجون لها، دون أن نجد لهم مواقف ضد حرية المختلفين معهم فى الرأى أو الموقف والتوجه السياسى أو الاقتصادى. مثقفو اليسار والليبراليين، يدينون جميعا أى حدث طائفى أو ممارسات ضد حرية الرأى، يقفون ضده ويتعاطفون مع الضحية، لكن لا يستطيعون إثبات تفهمهم واحترامهم لما يمثله الآخر -أى آخر- من أفكار وقيم وعقيدة، وهنا تكمن الآفة، آفة الطائفية والتشدد هى الجهل، ومقاومة أى محاولة للمعرفة والتبصير، غياب دور المثقف فى الدعوة إلى ثقافة الاختلاف والتعددية والحوار والجدل الفكرى، وفوق كل ذلك فشلهم للترويج للاحترام! مشكلتنا عدم تطابق قيم التيارات الفكرية التى يزعم مثقفونا الانتماء إليها مع مواقفهم، مثقفو التيارات اليسارية والليبرالية لم يقدم أى منهم شيئا مؤثرا وفعالا لدعم حقوق المواطنة طوال العقود الماضية. لا تسيئوا فهمى! ما أود قوله، هو أن طليعة المثقفين هم مَن يوجهون وينادون بالمساواة وحرية الرأى والاختلاف. المثقف قدوة، لا ينحاز أو يميز فى مواقفه الأخلاقية، يحترم الرأى الآخر والمواقف المناوئة، واضح فى إدانته لمواقف التكفير والمزايدات الدينية بغض النظر عن ضد مَن تصدر، وما هى مواقفه وانتماءاته. عندما نستعرض مساهمات كثير من النشطاء والمثقفين، هل نرى مبدئية أم انتقائية فى التعامل مع الأحداث والجرائم المرتكبة من حولنا؟ نقطتان أساسيتان.. الأولى: لا يعيب أحد الانتماء العقائدى من أى لون، المشكلة فى تعاملنا مع المواقف المختلفة، فى ادعاءاتنا أحيانا ومزايداتنا معظم الوقت. الثانية: أننا ما زلنا فى طور التكوين، ولا يزال أمامنا مسيرة كبيرة لكى نقف على بداية طريق القضاء على التشدد والطائفية فى المجتمع. موقف ودور المثقف يمثّل التحدى الأكبر، محطة تحتاج إلى مزيد من «النضال» حتى يتطهر المثقف ويتسق فعلاً مع ادّعاءات الحرية والمساواة واحترام الاختلاف.