عندما تندلع أحداث طائفية، تنبرى طبقة المثقفين والنشطاء فى التعبير عن غضبهم وإعلان مواقفهم الرافضة والمنددة. يرددون علينا قصص الطفولة التى شهدت صورا عديدة للتآخى والتآلف الوطنى، وكيف تربَّينا فى بيت الجيران المسيحيين أو العكس، وتبادلنا التهانى وتشاركنا الأفراح والأحزان. المثقف هو طليعة المجتمع، به يقتاد الناس، بما له من مكانة تمكنه من التأثير داخل المجتمع. لذا بات من المهم أن نتأمل فى مواقف وتوجهات المثقفين فى ما يتعلق بأحداث الفتنة الطائفية، ولا نكتفى بالإدانات والذكريات. والمصدر هو إطلالات عدد من مثقفينا ونشطائنا من المنتمين إلى التيارات السياسية والفكرية السائدة، إطلالاتهم على «فيسبوك» و«تويتر». الإشكالية الرئيسية هى صعوبة وضع قائمة «مثقفين»، ينتمون إلى قيم (كالحرية والمساواة والاحترام والحقوق والمواطنة) ويروجون لها، دون أن نجدهم فى حضن حركة سياسية تسعى للسلطة. مثقفو اليسار والليبراليين واليمين، أدانوا جميعا الحدث، وأخذ بعضهم فى فذلكة موقفه، مما أفصح قليلا عن مكمون قلبه، وهنا تكمن الآفة... فآفة الطائفية فى القلوب! الليبراليون، مشكلتنا معهم متجددة، عدم انطباق قيم تيارهم الفكرى على كثير من تحالفاتهم ومواقفهم. لكن لا يجب أن نُغفل موقف المثقف الليبرالى «المرشح»، لا سيما وأن المسيحيين يصنفون دومًا ككتلة انتخابية مضمونة لكثير من مرشحى التيار الليبرالى، وإن لم يقدم التيار الليبرالى شيئا يُذكر لدعم حقوق المواطنة طوال العقود الماضية. إذا انتقلنا إلى اليمين، سنجد إداناتهم واضحة، ولكن تضمن بعضها عتابا أخويا للأقباط، ليه طلع صوتكم وخرجتم عن المألوف عنكم لعقود؟ البعض الآخر أشار إلى خطيئة الأقباط ودعمهم للجيش. وفريق حمَّل الأقباط صراحة مسؤولية زخم مظاهرات 30 يونيو وما بعدها. لكن هؤلاء جميعا تداركوا: «دا مش معناه قتلهم»! مواقفهم تجىء متسقة مع توجهاتهم طوال الفترة الماضية. فمهما حاولوا التشدق بالمواطنة وحقوق الإنسان، فما فى القلب يظل! مثقفو اليمين، خانهم ذكاؤهم وتغلبت طائفيتهم على مواقفهم التى لم تجئ خالصة لإدانة الجرم ومواساة الضحايا. قد يسمحون بوجود مخالفيهم فى العقيدة والرأى، ولكن لن يتسامحوا مع معارضة وتعطيل مصالحهم. بالنسبة إلى مثقفى اليسار، فأبرز المواقف جاءت من «يمين اليسار!» وكثير منهم قد زاد صيته ولاقت مواقفه صخبا منذ 30 يونيو، بعد أن خَفَت صوتهم منذ انتخاب مرسى. فمنذ ثورة يناير لم يبرز عتاة اليسار إلا فى مناسبتين، الأولى هى المرحلة الثانية لانتخابات الرئاسة، والتفافهم حول مرشح الإخوان، والثانية عند عزل الرئيس مرسى! حمَّل كثير من متشددى اليسار مسؤولية العنف والدماء للجيش والشرطة، وحمَّلوا مؤيدى 30 يونيو المسؤولية الأخلاقية عما يحدث. ولم يلقَ عنف الإخوان وحلفائهم الإدانة الكافية، بل مالوا لتبرئتهم. كما لم يلقَ ضحايا عنف الإخوان من الجنود والأطفال تعاطفا ملموسا منهم. كل ذلك ربما «وجهات نظر»، ربما أولويات ومصالح، أو محاولات للاتساق مع مواقف سابقة، وعدم استعداد قادة الرفاق للمراجعة والتراجع ولا طبعا الاعتذار، وعلينا تقدير اتساقهم! المحصلة، التقاء اليمين من كل لون! لا أتحدث عن موقف البعض من «30 يونيو» وما تلاها، أتحدث عن الموقف من العنف والإرهاب. ولكن يظل ما فى القلب فى القلب! والانتماءات الطائفية لا تزال هى الفصل! وإن لم يتغلب الانتماء السياسى سابقا (دعم أقصى اليسار لمنتمى أقصى اليمين)، فالجديد هو تغلب الانتماء الطائفى لدى البعض... وأخيرا وجدنا حزنا وإدانة لعنف الإرهابيين! لا تسيؤوا فهمى! ما أود قوله، هو أن طليعة المثقفين، هم مَن يوجّهون، وينادون بالمساواة والحرية والمواطنة. المثقف لا ينحاز أو يميّز فى مواقفه الأخلاقية، لطائفة أو تيار، واضح فى إدانته للعنف بغض النظر عمَّن صدر أو من استَهدَفَ! يحزنه ويثير غضبه الضحايا بغض النظر عن انتماءاتهم. لذا فعندما ننادى بتحييد الدين عن السياسة، ونروِّج للدولة العلمانية، ومبادئ الحرية والمساواة، فيجب أن نتسق مع ذلك. أخلاقية ومبدئية مواقفنا لا تشوبها شبهة الانحياز والطائفية. وقبل الجزم بشىء دعونا نراجع مواقفنا لنقيّم ادعاءاتنا. عندما نستعرض مساهمات «فيسبوك» و«تويتر»، من جانب كثير من النشطاء والمثقفين، هل نرى مبدئية فى التعامل مع الأحداث والجرائم المرتكبة من حولنا؟ نقطتان أساسيتان، الأولى: لا يعيب أحد الانتماء العقائدى من أى لون، المشكلة فى تعاملنا مع/ ووفق عقائدنا، فى ادعاءاتنا أحيانا ومزايداتنا معظم الوقت. الثانية: أننا ما زلنا فى طور التكوين، ولا يزال أمامنا مسيرة كبيرة لكى نقف على بداية طريق القضاء على الطائفية فى المجتمع، فخطوتنا الأولى «المثقف» تمثل التحدى الأكبر، محطة تحتاج إلى مزيد من «النضال» حتى يتطهر المثقف ويتسق فعلا مع ادعاءات الحرية والمساواة. فكثير من مثقفينا أصبحوا أكثر يمينية وتطرفا من التيارات التكفيرية... وأخيرا يجب أن نبحث فى سيكولوجية «فرد اليمين»!