قبل شم النسيم بأيام قليلة فى ربيع عام 1985، جلست وحيدا فى المكتب بعد يوم عمل شاق، وعند السادسة تماما، أمسكت بسماعة الهاتف الأرضى، وطلبت رقم الدكتور ثروت عكاشة، كما أفعل كل يوم تقريبا منذ ثلاثة أشهر. كنت قد طلبت منه موعدا لإجراء حوار، لكنه اعتذر، مؤكدا أنه لا يتحدث إلى الصحافة. ومع تكرار الاتصال والإلحاح على اللقاء صار بيننا نوع من الصداقة والدردشة التليفونية، ووعدنى بتحديد موعد إذا وجد ما يستحق أن يقوله. استمر رنين جرس الهاتف حتى انقطع الخط دون أن يرد أحد، فرجَّحتُ أنه سافر لقضاء شم النسيم خارج القاهرة، استكملت واجبى اليومى بتليفون لصلاح جاهين، وكان صديقى الصحفى الراحل عادل الجوجرى (رحمة الله عليه) قد حاول أكثر من مرة أن يثنينى عن هذه الفكرة، مؤكدا أنه سعى كثيرا لإجراء حوار مع الدكتور عكاشة، إلا أنه كان يرفض بشكل قاطع، وبالنسبة إلى جاهين كان الجوجرى يعتبر الإصرار على الحوار تضييع وقت، لأن الفنان متعدد المواهب يعانى منذ فترة حالة اكتئاب دورى، ويتجنب الصحفيين، وبالفعل كانت الردود التى أتلقاها كلها من نوع: الأستاذ مش موجود.. مسافر.. نايم.. فى الحمام، وفى هذا اليوم سألنى صوت رجالى «كثيرا ما سمعته من قبل»: نقول له مين؟ قلت: فلان صحفى وعاوز أسأله عن الربيع. يبدو أن عبارتى الركيكة لمست شيئا فى مزاج جاهين، فقال مازحا بنفس النبرة الجادة: أنا صلاح.. بس الربيع مش موجود. زاد ارتباكى، وخرجتْ الكلمات منى بلا ترتيب، وطبعا فشلت فى تحديد موعد للحوار، لكننى حظيت بمكالمة طويلة هى خلاصة علاقتى المباشرة بالعم صلاح، سألته فى البداية عن شم النسيم، فحدَّثنى عن حب المصريين عموما للحياة، وأنهم يحتفلون مثل كل الشعوب بصحوة الطبيعة وتفتحها وموسم خصوبتها، وقال إن تلوين البيض، وأكل الفسيخ والترمس والخس والبصل، تعكس طريقة المصريين فى الاحتفالات عموما، مشيرا إلى أن أعيادنا جميعا هى مواسم للأكل والبهجة، فنحن نخصص لكل عيد أكلات مميزة عن الآخر، واستفاض فى شرح هذه الملاحظة تاريخيا، وقال إنها تأتى من معاناة المصريين فى الحياة اليومية، ولذلك جعلوا أعيادهم مناسبات لتعويض الحرمان، وتحقيق الإشباع. وتلقفتُ كلمة «المعاناة» باعتبارها مصادفة وسألته: وهل حضرتك أيضا تعانى؟ قال بجدية: كل الناس بتعانى.. المعاناة مش بس من الفقر والحرمان، المعاناة إحساس إنسانى عند الجميع. سألته: وما أكبر معاناة تعرضت لها؟ قال: وده علاقته إيه بتحقيقك عن شم النسيم؟ قلت: يهمنى صلاح جاهين أكثر من شم النسيم. قال: إنت ولد ذكى وصادق.. وتحدث بكلام فلسفى عام عن معاناة الإنسان مع الزمن ومتغيراته، وقال إن الحزن موجود فى كل وقت، لكن البنى آدم فى لحظات القوة يقدر يلوّنه كما يلوّن البيض، وفى أوقات العجز يكتفى بالشكوى حتى يتحول هو (الإنسان) إلى بيض يلونه الحزن كما يشاء. سألته: هل كان سعيدا فى الستينيات أكثر؟ قال: فى الستينيات كنا بنلوّن البيض، وبعدين شكلنا اتصدمنا وزعلنا لما وقع من إيدينا واتكسر، مع إن الدنيا ماخلصتش، الحكاية كلها مرتبطة بأد إيه عندنا أمل وأد إيه بنحلم، وأنا طول الوقت باحاول أزرع أمل، لكن الظاهر الناس فى الزمن ده بقت تدور على حاجات تانية مزغللة عينيها عن الأمل والسعادة، وعن الحياة نفسها. قلت: هل ده تأثير الانفتاح أم نكسة 67؟ قال: بلاش كلام الإنشا اللى بيتكرر زى الإسطمبة ده، لأن المعاناة والحزن، والأمل والحلم مش قرارات حكومة، دى مشاعر بدأت مع البنى آدمين وهتستمر معاهم للآخر، ومش مرتبطة بالسياسة، ممكن جنابك تنهزم وتفضل بطل وعندك هدف، وممكن تنتصر وتبقى طاغية أو مغرور، الهزيمة مش فى الحرب.. الهزيمة فى الحياة. قلت: وهل أصبحنا مهزومين فى الحياة؟ قال: يعنى. قلت: هل صحيح فيه نقطة سودا فى قلبك بدأت تبان؟ قال: إنت خرجت عن موضوعك وفتحت مواضيع ماتنفعش فى تليفون. قلت: عندى كلام كتير عاوز أعرفه من حضرتك. قال: اتصل وقت تانى، خلينا دلوقتى فى شم النسيم، فى فرح الطبيعة وبهجة الناس. كان صوت جاهين عاديًّا، لم يكن مشرقًا كما سمعته فى بعض حواراته الإذاعية، لكنه لم يكن يائسا أو متجهما، كانت مفرداته عادية وتعبيراته هادئة، لم يهتم باستشهاداتى من الرباعيات، ولم يتجاوب مع التعليقات الطريفة التى كنت أحاول أن أطيل بها الحوار.. كان يحدثنى باحترام وود، لكن الحميمية غائبة، والمشاعر «محبوسة» أو بتعبير أدق «محسوبة» داخل إطار عملى بارد يذكّرنى بأدائه التمثيلى مع فاتن حمامة فى فيلم «لا وقت للحب»، بعد أن اكتشف أنها تحب حمزة (رشدى أباظة)، ولم تنتبه إلى مشاعره. فى شم النسيم التالى كان جاهين على موعد مع الخلود، لكن حوارى معه لم يتوقف، فقد استمرت علاقتى بمسيرته الإنسانية، ومنجزه الإبداعى كرسام وشاعر وسينمائى وفيلسوف حياة. لم أصدق يوما أنه اكتأب لأنه شعر من داخله أنه شارك فى خداع الناس بأغانيه عن ثورة يوليو ثم استفاق مع صدمة النكسة، لكنه اكتأب من مزايدات الآخرين عليه وعلى مصر كدولة مستقلة صاحبة قرار ومصير، بل إن هناك من اعتبر أغانيه المبهجة لسعاد حسنى مثل «بمبى»، و«يا واد يا تقيل»، تعبيرا عن سقوط مشروعه السياسى واتجاهه إلى الهلس، بل وهناك من اعتبرها انتقاما من أغانيه الوطنية السابقة، لكن هذا التشفى هو الذى كان يوجع قلب صلاح جاهين فى نهاية السبعينيات، وقبل الجراحة التى أجراها فى صيف 1981 كتب الرباعية التى أشرت إليها فى مكالمتى معه «يا مشرط الجراح أمانة عليك/ وانت فى حشايا تبص من حواليك/ فيه نقطة سودا فى قلبى بدأت تبان/ شيلها كمان.. والفضل يرجع إليك/ عجبى». لم تأت «النقطة السودا» من الهزيمة فى سيناء، ولكنها جاءت من الهزيمة فى الحياة، من التحولات التى أساءت إلى اسم مصر ومستقبلها، وهو ما سجله قولا وشعرا بوضوح فى أكثر من مناسبة، أهمها ديوانه «أحزان سبتمبرية» الذى تغير عنوانه عند النشر إلى «أنغام سبتمبرية»، وكتب فيه ملحمته «على اسم مصر» وتغزَّل شوقًا وحبًّا فى عبد الناصر «كان لى صديق/ وكان حبيب عمرى/ هو اللى علّمنى المشيب بدرى/ حضرت مولد كل شعراية بيضا/ عبرت سوالفه كما الشهاب تجرى (..) بالشعر لابيض كان يعلمنى/ أستاذ تاريخ وفى التاريخ أستاذ/ قابلته من عشرين سنة وكلمنى/ وأنا لسة باحْبِى فى الظلال/ علمنى مشية الرجال/ سلمنى راية النضال/ ولحد هذا اليوم بيلهمنى/ وخياله كل ما اقع يقومنى/ وكل ما اتبعتر يلملمنى». هل هذه مشاعر رجل مخدوع فى عبد الناصر؟ وما الذى يضطره إلى أن يكتب شعرا بعد موت قائد مهزوم عسكريا يقول فيه: «وحشتْنا نظرة عيونك للبلد يا جمال»؟ ما الذى يضطره إلى التفاعل مع كل الأحداث الوطنية التى جرت بعد النكسة، فيكتب عن قصف شدوان، وبحر البقر، وأبو زعبل، ويتغنى بنصر أكتوبر، مستخدما تعبير عبد الناصر «ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة»، لكن السلطات تمنع هذه الأغنية التى قدمتها سعاد حسنى من ألحان كمال الطويل؟ ما الذى يدفعه إلى الاحتفاظ بصورة عبد الناصر على جدران منزله؟ لم أسأل جاهين فى مكالمتنا الوحيدة عن هذا الموضوع، لكنى أعرف إجابته وأثق بها، لقد تمنى الفنان البدين من كل قلبه أن يرقص الباليه، لكنه لم يستطع أن يحقق هذه الأمنية (آدى اللى كان وآدى القدر وآدى المصير). يمكن أن يتذكر ذلك ويحزن، لأنه كان مخلصا فى أمنيته، كما كان مخلصا لمصر الحرة القوية المستنيرة، ومن هذا الإخلاص شعر بالحزن على عدم تحقق أمنياته بإقامة «تماثيل رخام عَ الترعة، وأوبرا فى كل قرية عربية»، لكنه لم يسقط فريسة لليأس من الثورة ومن تقدم مصر. شَعَر جاهين بصدمة عنيفة عندما فوجئ ذات صباح بصحيفة «الأهالى» اليسارية تقدم حواره بهذه العبارة: أخيرا كشف صلاح جاهين ل«الأهالى» أنه كان يعيش طوال الستينيات فى أكذوبة كبيرة. واتصل يعاتب مسؤول التحرير الذى اعتذر إليه، ثم فوجئ بالعدد التالى يخلو من أى توضيح أو اعتذار، فجلس يكتب ردًّا تحتفظ العائلة بنصه حتى الآن، وصف فيه العبارة بأنها «أقوال غير صادقة تمس إخلاصى وانتمائى السياسى»، وأضاف: «إننى مؤمن بثورة 23 يوليو إيمانا لا يتزعزع، ومؤمن بعبد الناصر ومحب له كمؤسس لمصر الثورة، ولكننى تعلمت ودفعت غاليا لأتعلم أنه فى كل العصور (وحتى فى عصر عبد الناصر) كانت هناك فئران تنخر فى أساس البناء، ومن لا يلتفت وينتبه إلى هذه الفئران، يحدث له ما حدث لى من صدمة واكتئاب وندم وضياع.. ربما لا يفهم الشبان هذا الألم، لأنهم لم يصادفوه، وأرجو أن لا يصادفونه، وإن صادفوه، أرجو بدلا من أن يكتئبوا أن يواصلوا النضال». لقد رحل جاهين فى مثل هذا الشهر منذ 29 عاما، لكن رسالته تبدو اليوم باعتبارها «الوصية الضرورة» لحث الشباب على التمسك بالنضال من أجل أى ثورة تحقق الكرامة والحرية والعدل الاجتماعى. ختام جاهينى: أنا قلبى مليان حماسة/ لكل شىء حر صادق/ ماليش كتير فى السياسة لكن باحب المبادئ.