بعد الفشل الذريع لكل محاولات الإصلاح من الداخل قبل 2011، وانسداد القنوات الرسمية للتغيير، لم يجد مَن يؤمن بمستقبل أفضل لمصر إلا التسلُّح بروح المبادرة والنزول إلى ميدان التحرير، فى أروع ارتجالية سياسية يشهدها تاريخ مصر الحديث، ولكن للأسف لازمنا الارتجال من بعد ذلك ليقضى على كل فرص التغيير. مع أول اختبار لنا كان هناك إصرار غير طبيعى على إعادة اختراع العجلة وارتجال مرحلة انتقالية فريدة من نوعها بعد استفتاء 19 مارس. فى بعض الأحيان يكون الارتجال نتيجة لموهبة فذَّة أو تراكم معرفى أو ضربة حظ استثنائية، ولكن فى الحالة المصرية كانت نتيجة انتهازية سياسية ومصالح اقتصادية ومراهقة احتجاجية. استمر الارتجال فى اختياراتنا الصفرية فى الانتخابات الرئاسية 2012 التى شهدت صراعًا زائفًا بين فرقتين تنتميان إلى الماضى وتعاديان المستقبل. فما كان إلا أن جاء رئيس ينتمى إلى جماعة مغلقة على نفسها، ليعسف بما تبقى من فرص، ويرتجل علاقة مشوَّهة بين النظام والدولة والشعب. وليفتت الدولة داخليًّا تفتيتًا من خلال صراعات داخلية بين السلطات العامة. وتجسَّدت الملحمة الارتجالية فى خطابات كانت شر البيلة رغم إثارتها الضحكات. عزل الشعب الرئيس وانتفض ضده، فتغيَّر كثير إلا الارتجال فإنه يلازمنا. فها هى السياسات العامة يتم ارتجالها فى قوانين لم يتم إجراء الحد الأدنى من الدراسة حولها قبل إقرارها. وفى سعينا لتحقيق انطلاقة اقتصادية جديدة، تم ارتجال عدّة مشاريع قومية يصفونها أحيانًا بالعملاقة، ومؤتمر اقتصادى عالمى لا نعرف تفاصيله اللهم إلا بعض الشعارات حتى يرتجل القائمون عليه هدفًا واضحًا له. أما بخصوص استكمال خارطة الطريق، وبعدما ارتجلنا نظامًا سياسيًّا غير واضح المعالم، اتجهنا فارحين مرتجلين إلى إجراء انتخابات البرلمان، سعيًا لاستكمال إجرائى للتحوُّل الديمقراطى. فلم نتخلَّ عن عادتنا، فزايدنا على الارتجال الدستورى بارتجال قانونى حتى وإن خالف الدستور. فخرج علينا أهل الحل والعقد بنظام انتخابى فريد من نوعه للقوائم المطلقة التى تسعى جيبوتى للتخلُّص منه، ففشلت تلك المحاولة كما هو عهدنا بالارتجال. ليس النظام السياسى الوحيد الذى يأخذ من الارتجال بوصلته، فمعظم الأحزاب السياسية لا تمتلك إلا الارتجال، سواء فى أسباب نشأتها أو اختيار قادتها وإقرار لائحتها أو إجراء انتخاباتها أو اعتماد برامجها، فهى ليست فقط جزءًا من الفشل بل سبب فيه. ما أقوله ليس بكاء على اللبن المسكوب، فما زال هناك أمل يقل معدله مع كل ارتجالية جديدة. وللأسف الشديد كلنا مرتجلون، سواء نظام حكم أو أجهزة دولة أو أحزابًا سياسية أو معارضة شبابية أو إعلامًا غير مهنى، فالطريق إلى المستقبل يتطلَّب مراجعة حقيقية لاختياراتنا السابقة ومعرفة أسبابها، فبناء دولة جديدة ونظام سياسى مستقر هو عملية تحتاج إلى الجمع بين الفن والعلم، وليس مجرد تثبيت سلطة ما على حساب مأسسة الحياة السياسية. لم أختر أيًّا من تلك الاختيارات السابقة التى جانبها التوفيق مثلى مثل كثير من المهتمين بمستقبل أفضل لمصر. ولكن فشلنا فى تغيير مسار الرياح لا يجب أن يمنعنا من تغيير مسار الشراع والاستمرار فى المحاولات الجادة بعيدًا عن الارتجال.