أفضل ما تفعله رواية تعود إلى الماضى هو أن تكون هذه العودة من أجل الحاضر. هكذا فعلت الروائية السورية لينا هويان الحسن فى روايتها «ألماس ونساء» التى وصلت إلى قائمة «البوكر» العربية القصيرة لهذا العام. تستعيد الرواية فصولًا طويلة من حياة شخصياتها موزعة بين دمشقوباريس وساو باولو وبوينس أيرس، وعلى مساحة زمنية متعسة منذ عام 1912 حتى عام 1978، تحافظ على وقائع منسية لهجرات سورية بحثًا عن ثروة تتحقق فى أمريكا الجنوبية، ترسم ملامح تغيُّرات عاصفة على مستوى وطنها والعالم، تحكى عن امرأة القرن العشرين العربية التى خرجت من الحجاب إلى السفور، تتحدَّث عن الشام التى كانت تجمع كل الأطياف والأديان والقوميات. تتساءل لينا فى مفتتح روايتها: بماذا نمسك إلا ما يهرب منا؟ ، تكرر السؤال فى نهاية الرواية، وكأنها تقول إنها تستدعى الماضى من أجل حاضر لا يسر عدوًّا ولا حبيبًا، وإذ تبقى تلك الماسة الزرقاء اللامعة لمعانًا يشبه بريقًا لنجمة لا حد لها، وإذ يتزوج الحبيبان بعد كل تلك السنوات، فإن مساحة التفاؤل تزيد من جاذبية الرواية، وتغلّف الذكريات القديمة بأمل كبير فى المستقبل. تنقسم الرواية إلى قسمَين: الأول وهو الأفضل والأكثر تماسكًا وتفصيلًا، تحكى فيه عن بطلة من نوع خاص: ألماظ، الفتاة الدمشقية الصغيرة تتزوَّج من الكونت الثرى السورى كرم شاهين، تحتفظ ألماظ بتلك الماسة الزرقاء الأسطورية الموروثة عن جدتها الهندوسية بابور، يقال إن لصًّا سوريًّا اختطف الجدة وسرق الماسة من عين أحد تماثيل الآلهة، الكونت شاهين سيأخذ عروسه الصغيرة لتعيش فى باريس، فتتغيَّر حياتها إلى الأبد، عدد عشيقات الكونت بعدد أحلام ألماظ، هى أيضًا قوية الشخصية ومستقلة، ترد على غراميات زوجها بالهرب مع البكباشى الانتهازى محمود إلى ساو باولو، هناك يسلبها مجوهراتها، تتزوّج من رجل روسى عجوز يمنحها الحب، بعد موته تعود من جديد إلى كرم شاهين فى باريس، لا تفسر الرواية بشكل جيد كيف تقبل ألماظ ذلك حتى لو كان الأمر وفقًا لشروط. شخصية مثلها تستطيع أن تختار مَن تشاء، كرم أصبح أيضًا عجوزًا، ولكنها ستنجب منه ابنهما الوحيد كارلوس، ألماظ كما رسمتها لينا هويان الحسن تكاد تلخص حلم المرأة العربية بالحرية وتحقيق الذات فى زمن يحاول أن يتجاوز عصر الحريم، تساند ألماظ حق النساء فى التعليم والعمل، ولكن ضعفها الخاص يهزمها، تنتحر على شاطئ فرنسى إثر ما خسرته فى القمار، هى فى الحقيقة كانت دومًا تقامر بحياتها سواء فى الحب أو فى الهجرة إلى عالم لا تعرفه. فى الجزء الثانى الذى يبدو أقرب إلى العناوين السريعة، تتسع الفجوات الزمنية، وتنوب لغة شاعرية متأملة عن وصف تفصيلى مطلوب، ولكن مصائر جيل الأبناء تتعرَّض أيضًا لعواصف عاتية، بطلة هذا الجزء هى أيضًا امرأة اسمها برلنت، الكلمة تعنى الماس ولكن باللغة التركية، وكأن برلنت تنويعة على ألماظ بطلة الجزء الأول، برلنت ابنة امرأة أرمنية كانت تعرفها ألماظ، عاشت تلك المرأة حياة عاصفة قادتها من دمشق إلى بيروتوباريس وساو باولو، ولكنها عادت فقيرة لتلد برلنت فى دمشق، تبنت الطفلة الجميلة إحدى هوانم دمشق، ولكن الهانم أنجبت ابنة، فأخذت اسم برلنت لابنتها، وأعطت الطفلة المتبناة اسم لطفية، ولكن الأخيرة تمسَّكت باسمها، تمرَّدت على واقعها، ردَّت على الشراسة بشراسة مماثلة بعد أن تحوَّلت إلى خادمة لابنة الهانم، وبعد أن تسرّى بها خطيب الابنة ثم تزوج من ابنة الهانم، ستحتفظ لطفية باسم برلنت، ستستخدم جمالها لتصبح سيدة أعمال ثرية، ستصبح عشيقة لأحد الأثرياء، ستدفعها الكراهية أكثر مما يحركها الحب، هى لا تبادل كارولوس حبًّا بحب، ولكن كارلوس الذى هاجر إلى ساو باولو بحثًا عن ميراث أُمّه ألماظ لم ينسها، عاش عشرين عامًا فى الأرجنتين، تزوج وقتلت زوجته وابنه فى فترة تقلبات سياسية، ولكنه سيعود إلى دمشق ليسترد ذاكرته وحبه، تغيَّرت دمشق ولكنه سيأخذ برلنت إلى الأرجنتين، ما زال الجيل الجديد يبحث عن الحرية، بعد أن تحوَّلت دمشق فى النصف الثانى من السبعينيات إلى بلد الوشاية والتقارير والمطاردات الأمنية. تنحاز ألماس ونساء بلا مواربة إلى المرأة حتى فى طموحها وتمردها العاصف، معظم النماذج الذكورية لا تهتم إلا بشهواتها، الربط بين الماس والمرأة لا يتعلق فحسب بحب المرأة المعروف للمجوهرات، ولكنه يأخذ معنى أعمق: الماس لا يتشكَّل إلا تحت الأرض، ووسط الصخور والبراكين، ومع ذلك يخرج لامعًا كالشمس، هكذا هى المرأة، بل هكذا هو جيل المهاجرين الذين عانوا ودفعوا ثمن حريتهم ونجاحهم، ولكنهم لم يتوقَّفوا أبدًا عن العمل، تنحاز الرواية كذلك إلى وطن متعدِّد الأديان والأعراق، فى الرواية قصة بديعة عن زواج فتاة مسلمة من رجل يهودى، الاثنان سوريان، هربا إلى ساو باولو، وبعد سنوات طويلة، ماتا معًا، لم يدفنا فى دمشق، فقد غرقت الباخرة التى عادت بهما، احتضن المحيط حبهما الأبدى. وفى الرواية تعاطف واضح مع الحلم الكردى، بوتان هو صديق برلنت وكارلوس، الشاب الكردى ينتمى أيضًا إلى ذاكرته، إلى تاريخ طويل قديم، إلى والده الأمير القادم من جبل كردستان، معاناة جيل الأبناء لا تقل عن معاناة الآباء، ولكنهم يواصلون رغم الخيبات والكوارث، ورغم ضعفهم ونزواتهم أيضًا. لعل أفضل ما حققته الكاتبة هو رسم لوحات بارعة لشخصيات حية ونابضة، سواء فى دمشق أو فى باريس أو فى بلاد المهجر، هناك انتقالات سلسة بين الأماكن، ربما كان يمكن أن يكون الجزء الثانى أفضل وأكثر تفصيلًا، بدا كما لو أن الكاتبة تريد أن تلملم أوراقها وتغلق أقواسها بسرعة، تدخلت أحيانًا قليلة بتعليقات وتأملات مباشرة، كانت الرواية عمومًا تحتمل فصولًا أطول، لأنها رواية أجيال وأوطان وأزمان، ولكننا عمومًا أمام راوية ذكية، لأنها تقدم تأملًا ناضجًا للماضى، تريد أن تجعلنا نصنع التاريخ بدلًا من أن نكرره، وتستخدم أشياء الماضى كذاكرة لا تنمحى، ثوب الدامسكو الأبيض والألماسة الزرقاء صاحبا ألماظ فى حياتها، اختفيا، ولكنهما سيعودان فى نهاية الرواية، ستبقى إلى الأبد جوهرة نفيسة قاومت تحت الأرض الامتثال والخضوع، فاحتفظت ببريق استثنائى، لا يمكن أن يزول.