عندما يكون الحديث عن ثورة -أو انقلاب- 23 يوليو في كتب التعليم المدرسية، يختفي اسم محمد نجيب إلا من صورة صغيرة مكتوب تحتها "أول رئيس لمصر" وكأن محمد نجيب خُلق ليؤدي هذا الدور الهامشي؛ وليكون جسرًا يعبر فوقه الأقوياء إلى كرسي الحكم. كان نجيب يُمثل حُلم وطن بكامله في "معركة الديمقراطية" مارس 1954، وكانت خسارته المعركة والرهان خسارة لوطن لم يعد حُرًا، بل أضحى مُكبلًا بعذابات وآلام بعضها فوق بعض، ومُتوجًا بأنقاضٍ نتباهَىَ بها في غمرة تيهنا. 31 عامًا مضت على غيابه الأبديّ، فيما لم يغبْ عنا، حتى الآن، ذاك الفجر المغدور، الممتلئ بنشوة أنْ يكونَ حُرًّا، حُرًّا فقط، في وطنٍ حُر. لذلك، كان لابد من العودةُ إلى الوراءِ في ظل فُقدان الذاكرة الجماعي، فبعد ساعاتٍ من قيام الثورة تركزت الأنظار علي اللواء محمد نجيب باعتباره قائد الثورة الذي طرد الملك وأنقذ مصر من عهد الظلم والطغيان وأمل البلاد في تخليصها من الاستعمار البريطاني. وكانت صور وخطب نجيب تتصدر الصفحات الأولي من الجرائد والمجلات المصرية والعربية والأجنبية، لكن بعض الضباط بدأوا يحاولون أن يجنوا ثمار نجاح "الحركة المباركة" كما كانت تسمى آنذاك، مما تسبب في صدامه معهم. يقول نجيب في كتابه "كنت رئيسًا لمصر"، "لقد خرج الجيش من الثكنات، وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر، كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويًّا، فأصبح لكل منهم "شلة" وكانت هذه الشلة غالبًا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورًا لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها". وكان أول ما فعله بعض الضباط الأحرار أنهم غيروا سياراتهم الجيب وركبوا سيارات الصالون الفاخرة، واستولوا على قصور الأمراء، وهو ما استنكره نجيب في مذكراته. وكان أول خلاف بين محمد نجيب وضباط القيادة حول ما عُرف ب"محكمة الثورة" التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي، خاصةَ بعد صدور نشرة باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم مصطفى النحاس، فرفض نجيب اعتقال النحاس. كا أصدرت تلك المحكمة قرارات ضاعفت من كراهية الناس للثورة مثل مصادرة 322 فدانًا من أملاك زينب الوكيل، حرم النحاس باشا، كما حكمت على 4 من الصحفيين بالمؤبد وبمصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية. واندلع الصدام على أشده بينه وبين مجلس القيادة، عندما اكتشف أنهم ينقلون الضباط دون مشورته، كما أن زكريا محيي الدين رفض أن يؤدي اليمين الدستورية أمام نجيب بعد تعيينه وزيرًا للداخلية فحاول نجيب تقديم استقالته. وأصر بعد ذلك على الاستقالة، لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالة نجيب حتى لا تخرج مظاهرات مؤيدة له، ووافق نجيب على الاستمرار إنقاذًا للبلاد من الحرب الأهلية ومحاولة إتمام الوحدة مع السودان. وكان نجيب يعتبر أن مسألة الوحدة مع السودان من الأمور المركزية بالنسبة لمصر، ولكن توجه إليه عبد الحكيم عامر في 14 نوفمبر 1954، وقال له "إن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءك من منصب رئاسة الجمهورية، فرد عليه نجيب "أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولًا عن ضياع السودان، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبًا" كما روى نجيب في مذكراته. وأقسم عبد الحكيم عامر لنجيب أن أنه سيُقيم في فيلا زينب الوكيل أيامًا معدودة ثم يعود إلى بيته، لكنه لم يخرج من الفيلا طوال 30 عامًا. وفي سنواته الأخيرة نسى كثير من المصريين أنه لا يزال على قيد الحياة، حتى فوجئوا بوفاته في 28 أغسطس 1984. ولد محمد نجيب بالخرطوم، لأب مصري وأم سودانية المنشأ، وتلقى تعليمه بمدينة ود مدني عام 1905 ثم التحق بكلية الغوردون عام 1913 . والتحق بمعهد الأبحاث الاستوائية ثم التحق بالكلية الحربية عام 1917 وتخرج فيها عام 1918، ثم سافر إلى السودان 19 فبراير 1918 والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل بها والده ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري. وحصل على شهادة الباكلوريا عام 1923، والتحق بكلية الحقوق، ورقي إلى رتبة ملازم أول عام 1924، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألماني. وحصل على ليسانس الحقوق، ودبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929، ودبلوم آخر في الدراسات العليا في القانون الخاص عام 1931، وبدأ في إعداد رسالة الدكتوراه ولكن طبيعة عمله العسكري وكثرة تنقلاته حالا دون إتمامها. وبعد حرب 1948 كان جمال عبدالناصر شكل تنظيم الضباط الأحرار، وأراد أن يقود التنظيم أحد الضباط الكبار لكي يحصل التنظيم على تأييد باقي الضباط، وبالفعل عرض عبد الناصر الأمر على محمد نجيب فوافق على الفور. وكان اختيار الضباط الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم داخل الجيش، فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون على باقي ضباط الجيش الانضمام إلى الحركة كانوا يسألون من القائد، وعندما يعرفون أنه اللواء محمد نجيب يسارعون بالانضمام، لسمعته الطيبة في الجيش ولمنصبه المهم. وفي ليلة 23 يوليو لعب نجيب دورًا مهمًا في نجاح الحركة، فقد قدم للعالم و الشعب المصري كقائد للحركة العسكرية التى استولت عى الحكم فى البلاد وتحمل المسئولية العسكرية والسياسية أمام الجميع. وعلى الرغم من دوره الحاسم في نجاح الحركة المباركة، فقد انتهى به الحال بمنعه من مقابلة أي شخص خارج أسرته لمدة 30عامًا حتى إنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، وشُطب اسمه من كتب التاريخ؛ لتضيع السودان، ولتضيع الديمقراطية وحتى إشعارٍ آخر.