"كانت هناك أنات ضحايا الثورة.. الذين خرجوا من السجون والمعتقلات، ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب، وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات. وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة. وعرفت ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري، فقد حريته، فقد كرامته، فقد أرضه، وتضاعفت متاعبه، المجاري طفحت والمياه شحت، الأزمات اشتعلت، الأخلاق انعدمت، والإنسان ضاع". قد تنطبق هذه الكلمات على حال المصريين منذ اندلاع ثورة 25 يناير، ولكنها في حقيقة الأمر تصف أمرا مماثلا، حاول اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد أن تحولت من مملكة إلى جمهورية، أن يسطرها في مذكراته، ولطالما أوجعته أحوال المصريين بعد ثورة يوليو التي قادها، آملا في الديمقراطية والتخلص من الظلم والاستعمار. لم يذق نجيب من الثورة وكفاحه في محاربة الطغيان، وسعيه لإرساء الديمقراطية، وتطهير الجيش ونظام الحكم من الفاسدين، وإقامة حكومة برلمانية جديدة وإعادة الجيش لثكناته، سوى مر ثمارها، عندما تم إعفائه من رئاسة الجمهورية أو "خلعه" وإقامته الجبرية في فيلا زينب الوكيل لبضعة أيام، كما قيل له - انتهت ب 30 عاما داخلها. يعد نجيب هو أول رئيس تم خلعه، قبل مبارك الذي أطاحت به ثورة 25 يناير، ومرسي في 30 يونيو، ليرجع تاريخ خلع أول رئيس مصري إلى 14 نوفمبر 1954، إلا أن مبارك ومرسي أطاحت بهما إرادة الشعب بعد أن تفشى في عهد الأول على مدار 30 عاما الظلم والفساد، في حين لم يتعظ الأخير من قوة إرادة الشعب ولم يحترمها لتطيح به هو الآخر، ولكن يختلف الأمر كليا مع نجيب، الذي أطاح به مجلس قيادة الثورة التي كان قائدها. ففي مشهد مفاجئ مهيب، دخل نجيب قصر عابدين، ولاحظ أن ضباط البوليس الحربي لم يؤدوا التحية العسكرية، فأحاط به جنود يحملون البنادق، واستطاع إدراك الأمر، ومنع جنوده من القتال مع جنود الحرس الجمهوري، ثم تبعه ضابطان من البوليس الحربي حتى صعوده مكتبه، ليتلقى هاتفًا من جمال عبد الناصر، ثم جاء عبد الحكيم عامر ليخبره بإعفائه من منصب الرئيس، ليرد قائلا "أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسؤولا عن ضياع السودان، أما إذا كان الأمر إقالة فمرحبا"، وخرج بهدوء حاملا مصحفه متجها إلى معتقل المرج. ولد محمد نجيب في فبراير 1901 بالسودان، لأب مصري وأم مصرية سودانية المنشأ، حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة وتلقى تعليمه بمدينة ود مدني عام 1905، التحق بالمدرسة الابتدائية بعد أن انتقل مع والده إلى وادي حلفا عام 1908، والتحق بكلية جوردون عام 1913، وبعد تخرجه منها التحق بالكلية الحربية في مصر عام 1917. عدة مراحل مر بها نجيب في حياته، حيث سافر إلى السودان عام ،1918 والتحق بالكتيبة المصرية كضابط بالجيش، ومنها إلى سرح الفرسان، وترقى إلى رتبة صاغ "رائد" عام 1938، ثم لرتبة قائم مقام "عقيد" في 1944، ثم إلى أميرالاي "عميد" عام 1948، وفي 1950 تمت ترقيته إلى رتبة لواء. وبأغلبية الأصوات، انتخب رئيسا لمجلس إدارة نادي الضباط في 1952، ولكن الملك فاروق أمر بحل المجلس، وشكل أول وزارة بعد استقالة علي ماهر باشا، ثم تولى رئاسة الجمهورية عام 1953، وأقيل من منصبه في 14 نوفمبر 1954، ووضع تحت الإقامة الجبرية بضاحية المرج بفيلا زينب الوكيل، حرم مصطفى النحاس. ورحل عن هذا العالم الذي أعطاه ظهره لسنوات طويلة، بهدوء في 28 أغسطس عام 1984 عن عمر يناهز 83 عاما.