«وين هنادى يا امّاى؟ جولت لَك هنادى راحت فى الوَبَا، دارى إيديك يا خال، دم هنادى بينجّط منها». كان هذا واحدًا من أشهر حوارات، أو إن شئت الدقة «كليشيهات» السينما المصرية عبر تاريخها، تابعناه فى «دعاء الكروان» لطه حسين، سيناريو وحوار يوسف جوهر، وإخراج هنرى بركات، وبطولة الرائعتين الراحلتين فاتن حمامة وزهرة العلا، وبالطبع لدينا عشرات من التنويعات عن الشرف والعذرية فى السينما والدراما المصرية. تكتشف أن الأمر فى أوروبا بنسبة ولو هامشية لم يتم تجاوزه تماما كما يعتقد البعض، بل توجد مثلا عيادات فى الدنمارك والسويد وغيرهما مخصصة للأجانب، وهم عادة من العرب الذين يلجؤون إلى عمليات إعادة البكارة، وهناك أيضا أسباب أخرى تجميلية ونفسية تُجرى بسببها هذه العمليات. المفاجأة أن نشاهد فى برلين أفلاما فى هذا النطاق، إذ نلمح حضورا مكثفا لهنادى وآمنة والوَبَا. فى فيلم رائع برازيلى عُرض على هامش قسم البانوراما الأم الثانية سأل الشاب الثرى فتاة فى السابعة عشرة من عمرها: هل أنت عذراء؟ ، أجابته باستهجان: يبدو أنك أنت الذى لا تزال عذريا ، أى ليست له تجارب من قبل. العذرية ليست حكرًا على النساء. قبل نهاية الفيلم نكتشف أن الفتاة لديها طفل أخفته عن الجميع. الفيلم يستحق بالطبع وقفة، ليس بسبب حديثه عن العذرية التى جاءت على الهامش، ولكن للإشعاع والدفء اللذين نضحت بهما الشاشة فاستحق قبل 24 ساعة فقط من نهاية المهرجان كل هذا التصفيق. الفيلم تناول العذرية مباشرة وكان محوره الرئيسى قَسَم العذرية ، وهناك بالفعل قَسَم تردده الفتاة أمام عدد من حكماء القرية وبحضور والدها أن تحافظ على عذريتها كأنه قَسَم أبى قراط فى الطب، وهو ما حرصت المخرجة الإيطالية لورا بيسبيورى على أن تمنحه فى أحداث الفيلم مساحة. الفيلم مأخوذ عن رواية أدبية، وإن كانت المسحة أو الومضة الأدبية قد غابت تماما عن تفاصيل الفيلم. للفيلم بطلة، وكلمة بطلة ظلت غامضة عن المشاهدين نحو ثلث زمن الفيلم لأن كل شىء نراه يؤكد أنه رجل. الفيلم لا يقدم امرأة سحاقية ولا هى فى تكوينها العضوى والنفسى رجل، ولكن فُرض عليها هذا الإحساس حتى بعد أن نكتشف أنها مُكرهة على الانصياع. تنتمى البطلة إلى قرية فى ألبانيا ترى كشف الإحساس بمشاعر المرأة عورة، لهذا تُخفى أنوثتها تماما فى تسريحة الشعر وتضع على ثدييها رباطا محكما نكتشف فى ما بعد أنه أدى إلى إصابتها بقروح فى ظهرها حتى تظل المخرجة تحيرنا فى كشف هويتها الجسدية أطول فترة ممكنة. أطلقت على نفسها مارك رغم أن اسمها الحقيقى هانا ، وعاشت فى عالم الرجال تتقمصه بكل تفاصيله، تتقابل معهم ولا تمنح أبدا لنفسها فرصة لكى يكتشف هويتها أحد، فأنت لا ترى سوى رجل يتحرك أمامك، وهو ما قصدته المخرجة فى تقديمها للشخصية منذ الوهلة الأولى عندما نراها فى ألبانيا قبل أن تذهب إلى ميلانو بإيطاليا لتلتقى مع شقيقتها هناك وتتعرف على عالم جديد، وهى نفسها لا تدرك ما يجرى فى هذه الدنيا سوى أنها فقط وُلدت فقط لكى تُخفى معالمها الأنثوية. الفيلم تقدمه المخرجة التى شاركت فى السيناريو وفق بناء محكم فى تناقضه، ولكن هذه الصرامة التى ترسم بها تفاصيل السيناريو تفقده قدرا من الطبيعية حتى ولو كانت تلك هى الحقيقة فى بعض القرى بألبانيا كما يشير عدد من الحوارات مع فريق العمل، من خلال المادة الصحفية التى تواكب فى العادة أفلام المهرجان. تغيير طبيعة المكان والظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية دفعها إلى أن تتعرف على الجنس الآخر، ولهذا تسأل ابنتَى شقيقتيها عن الجنس وبماذا تشعران. تنتقل الأحداث بتناقضها من ألبانيا إلى حمام السباحة هناك ليبدو الأمر بصريا محقِّقًا ذروة التناقض بين الإخفاء والكشف، وهو ما نراه يحمل قدرا من الصدمة لدى المشاهد، وهى بالطبع مقصودة من المخرجة التى تقدم بناء كلاسيكيا فى التعبير السينمائى الذى تجد فيه كل التفاصيل حاضرة بين العالمين، ولا تلبث بين الحين والآخر أن تذكرنا بالقرية بكل قسوتها الطبيعية والنفسية، إذ يتردد قَسَم الشرف بكل طقوسه. هناك فى الحقيقة تفاصيل نتوقف عندها بأداء الشخصية وتقمصها، فهى ليست امرأة شاذة ولكنها مقهورة مجبرة على إخفاء مشاعرها، والفارق شاسع. وبالطبع حتى تحدث المصداقية اختارت المخرجة الممثلة ألبا روهايواشير لملامحها الخارجية المحايدة تماما بين الأنوثة والرجولة، وفى نفس الوقت لأنها الأكثر قدرة على التعبير المكثف بتلك التفاصيل حتى فى الأداء الصوتى، فهى مارك كما يقدمها لنا الفيلم. المخرجة لم تقف على الحياد قَط، بل حرصت على خلق التعاطف مع الشخصية لتضعنا أمام معركة الاكتشاف، فهى لم تتحرر كأنثى بالاكتشاف العقلى والوجدانى لطبيعتها ولم تعِش مثلا قصة حب، ولكن الغريزة هى التى نقلتها وحررتها من قيود فُرضت عليها فذهبت فورا بعدها مباشرة إلى شاطئ أنوثتها. المخرجة تعود بنا دائما إلى القرية فى رؤية أقرب إلى روح الفولكلور، وهو ما يمكن أن تلحظه فى تلك الثنائية التى تبنى بها السيناريو وتشعر كأنهم فى ألبانيا يعيشون فى عالم بدائى لم تدخله أجهزة إعلام ولا شىء، ولكن فى النهاية الحكم على الأفلام يأتى من خلال اللغة. افتقر الفيلم إلى لغة سينمائية عصرية صوتًا وصورة، كان يبدو كأنه سعيد باكتشاف تلك القرية فى ألبانيا، وهذا بالتأكيد لا يكفى. *** على الجانب الآخر تماما نرى حياة المخرج الروسى الكبير سيرجى إيزنشتاين، واحدًا من أساطين المهنة فى العالم ومدرسة سينمائية قائمة بذاتها منتصف العشرينيات من القرن الماضى، عندما كانت السينما تحاول أن تتعلم النطق. المخرج البريطانى بيتر جرينواى قدم فيلمه إيزنشتاين فى جوانحوانو يتناول زمنيا مطلع الثلاثينيات، إذ يتناول ميول إيزنشتاين الجنسية المثلية وأن تلك العلاقة التى جمعته مع مساعده المكسيكى الهدف منها أن يتحرر من أفكاره السابقة لينطلق إلى عالم آخر أكثر تحررا وجنوحا وجنونا، وهو لا يدافع عن ميول المخرج الروسى بقدر ما يحيل ذلك إلى وسيلة للتعبير السينمائى. الفيلم لا أتصور أنه من الممكن عرضه بالمناسبة فى أى مهرجان عربى حتى لو غلّف تلك المشاهد برؤية ساخرة أو منحها بُعدا سياسيا مثلما حاول المخرج أكثر من مرة فى تتابع الفيلم القائم على لغة سينمائية تجعل اللاشعور هو الذى يملك مفاتيح التتابع وكود قراءة الفيلم. الصورة تتشكل بصريا وسمعيا بهذا القانون الفنى، وهو ما يضع التجربة برُمّتها فى إطار سينمائى حداثى. تلك هى السينما، وهذا هو حال المهرجانات.. هنادى فى الوَبَا، وإيزنشتاين فى المكسيك!!