فى تاريخ الأغنية المصرية لا يمكن سوى أن نتوقف أمام هذا الشاعر الذى منح العامية الدارجة ألقًا ورائحةً وألوانَ قوس قزح. عندما رحل الشاعر الغنائى الكبير مرسى جميل عزيز كتبت على صفحات روزاليوسف أنعاه: فى يوم.. فى شهر.. فى سنة.. تهدا الجراح وتنام.. وعمر جرحى أنا أطول من الأيام . وأضفت: ستظل كلماته تعيش فينا أطول من أيامه وأيامنا . مر 35 عاما على غيابه ولا تزال كلماته حاضرة تتردد عبر كل المحطات الغنائية.. كلمات مرسى تحمل الإبداع الخاص الذى يتجاوز قيد الأغنية لنجد أنفسنا نتعايش مع شاعر يحيل نبضاته إلى حروف تملك إشعاعا يضىء فى أعماقنا.. لو أنك حررت الأغانى من موسيقاها وصوتها ووضعتها تحت مجهر الإحساس الشاعرى لوجدتها تفيض بالموسيقى دون أن تضع عليها موسيقى، والكلمة بقدر ما تبدو للوهلة الأولى بسيطة ومباشرة بقدر ما تكتشف ببعض التأمل كم هى عميقة وموحية. مثلا تذكر فى أنا باستناك بصوت نجاة: مرايتى.. قوليلى يا مرايتى.. حبيبى ماجاش لدلوقتى.. وفاتنى لوحدتى وانتى . تجد مثلا فى تلات سلامات تلك الصورة التى لا تُنسى: عيونك سود وأقول مش سود عشان الناس تتوه عنك . وتستمع فى ألف ليلة وليلة إلى هذه الآية التى يتضمنها الإنجيل وتقرؤها كثيرا على المحلات التجارية الله محبة ، ويضيف هو الخير محبة.. النور محبة ، أو فى سيرة الحب حين يقول: ياللى ظلمتو الحب.. وقولتو وعِدْتو عليه.. قلتو عليه مش عارف إيه . تخيّل أن أم كلثوم تقول هذه الكلمات الجريئة ثم تلك القفلة مش عارف إيه . أو مع فريد الأطرش: اسمع اسمع لما اقولك.. ولا اقولك مش ح اقولك.. ما انت عارف يا حبيبى قصدى إيه من غير ما اقولك . هو أكثر شعراء الأغنية تكرارا للكلمة الواحدة أكثر من مرة مثل اقولك ، ورغم ذلك فى كل مرة تزداد عبقرية وشاعرية. وخذ واحدة أخرى لمحرم فؤاد: بس يعنى قصدى يعنى قولى يعنى.. إذا كان قلبك شارينى أو بايعنى ، كلمة يعنى بطبعها غير مستخدمة من قبل غنائيا ولكن هنا عبقرية مرسى فى منح الكلمة العادية إحساسا شاعريا. أو مع محمد فوزى: الشوق.. الشوق الشوق.. حيرنى.. الشوق الشوق.. سهرنى.. الشوق الشوق . عد كم مرة شوق ورغم ذلك نزداد رغبة فى سماع المزيد من الشوق الشوق . ومع شادية فى وعد ومكتوب : الدنيا لو مالت ميل.. ما تقولش كتير ولا قليل.. هوّنها ده الصبر جميل.. أى والله الصبر يا أيوب.. وعد ومكتوب !! قالوا عنه جواهرجى الكلمات، وقالوا أيضا شاعر الألف أغنية.. لا أوافق أبدا على التقييم الرقمى للمبدع ولكنى بالفعل أراه صانعا للزمرد والياقوت والمرجان.. قيمة مرسى جميل عزيز تقدر بعمق إبداعه وأيضا بتلك الثورة الشاعرية التى أحدثتها كلماته فى مسار الأغنية العربية.. كان مرسى يلحن كلماته وهو يكتبها، وهكذا مثلا توافقت أشعاره التى يكتبها مع الموسيقار الكبير محمد الموجى. لمرسى تعبير دقيق جدا عن علاقة كلماته بأوتار عود الموجى، يقول: عندما أسلم كلماتى له أنام على وسادتى وأنا قرير العين . قدم له فى البدايات مثلا يامه القمر ع الباب التى أحدثت ثورة اجتماعية قبل أكثر من 50 عاما، عندما قالت فايزة أحمد: يامه القمر ع الباب.. خبّط وقال يا احباب.. ردّوا على الخُطّاب.. ما عادش فيها كسوف.. يامه اعملى معروف.. قومى افتحيله الباب . جرأة فى التناول لم يألفها الشعر العربى، وهاجموه بضراوة لأنه أضفى على المرأة كل هذه الجرأة، فهى التى تفتح له الباب. وأمام قسوة الهجوم منحه الرئيس عبد الناصر وسامًا فتوقف المهاجمون. لم يكن مرسى يأنس فقط بالموجى ولكن حدثت بينهما ثنائية إبداعية، ورغم ذلك فإن ثلاثية أم كلثوم : سيرة الحب ، فات الميعاد ، ألف ليلة وليلة كتبها مرسى كقصة واحدة من ثلاثة فصول، وكان للموجى وجهة نظر فى تتابع بعض أبياتها ورفض مرسى التغيير، ولهذا أسند تلحين الأغنيات الثلاث إلى منافسه اللدود بليغ حمدى، فصارت من أهم الأغنيات التى لحنها بليغ لأم كلثوم، بل من أفضل ما قدمت أم كلثوم، وأثبتت الأرقام أن هذه هى أكثر أغنياتها توزيعا حتى الآن!! ورغم عشرات من الإبداعات التى لا تنسى لمرسى جميل عزيز فإننى أتوقف أمام طيّب يا صبر طيّب لعبد المنعم مدبولى وتلحين كمال الطويل فى فيلم مولد يا دنيا .. آه يا زمان العبر.. سوق الحلاوة جبر.. إحنا اللى كانوا الحبايب.. بيسافروا بينا القمر.. بقينا أنتيكا.. دقى يا مزيكا !! صورة تراجيدية من الطراز الرفيع. ومن اللمحات المضيئة لمرسى جميل عزيز أنه يتذوق الموسيقى وتعلم بالفعل العزف على العود وكتابة السيناريو، وله سيناريو غنائى أظن اسمه سندريلا كتبه لكى تلعب بطولته عفاف راضى ولا أدرى ما هو مصيره الآن. حكى لى الموسيقار محمود الشريف أنه كان يجلس مرة معه فى نقابة الموسيقيين وكان بائع الثوم ينادى توم الخزين يا توم ، فوجد مرسى يكتب: توب الفرح يا توب.. مغزول من الفرحة ، ولحنها محمود الشريف فصارت واحدة من أشهر أغنيات أحلام. هل رأيتم لماحية وسرعة بديهة مثل تلك التى يملكها مرسى؟ وحكى لى المخرج عاطف سالم أنه فى فيلم يوم من عمرى قال له: يا مرسى، عايز غنوة فيها ضحك ولعب . وعلى الفور أضاف: وجد وحب ، فصارت بلحن منير مراد من أكثر الأغانى شقاوة وخفة ظل. ولم تكن العامية فقط هى ملعبه، بل كتب بالفصحى فى عيد العلم ذات ليلة التى غناها عبد الحليم ولحنها كمال الطويل، وطلب الرحبانية (منصور وعاصى) أن يكتب لهما مرسى لتغنى فيروز وبالفصحى سوف أحيا ، ولا نزال نردد كلما ألمّ خطب بمصر واحتجنا إلى من يطيب خاطرنا ويطبطب علينا بلدى أحببتك يا بلدى ، ورغم أن محمد فوزى لحنها وغناها فى عام 66 فإنها صارت الأغنية التى لا نكفّ عن استعادتها. هذا هو مرسى جميل عزيز.. الشاعر الذى تؤكد كلماته أنه سوف يحيا !