مدهشة حقا هذه التجارب الروائية الجديدة، كاتبات يكتبن بصورة تكشف عن موهبة كبيرة وطموح أكبر، يناقشن أفكارا كبرى، دون أن يغفلن التفاصيل وبراعة السرد والحكى، حفيدات شهرزاد، أرجو أن لا ننسى ذلك. من هذه التجارب اللافتة حقا تلك الرواية البارعة الروح الثامنة لمؤلفتها نرمين يُسر، الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب، باستثناء بعض الملاحظات حول استطرادات أخلّت بتوازن السرد عبر أصوات متنوعة، فنحن أمام عمل ناضج، لامع الفكرة، غنىٌّ بالتفاصيل والتجارب الإنسانية، رحلة عبر المكان بحثا عن السلام النفسى، ورحلة أيضا داخل روح هائمة تنتقل من كندا إلى كابل، ثم لندن، وصولا إلى شنغهاى ومنغوليا، لتنتهى فى القاهرة، لا تحكى الروح التى سكنت فتاة كالملائكة أبدا عن نفسها، بل نراها من خلال عيون الرواة المختلفين، هى فى رأيى رواية بحث وليست رواية وصول رغم أن بطلتها اكتشفت بعض العلامات، ورغم أنها تركت رواة قصتها وقد اكتشفوا شيئا ما حولهم أو فى داخلهم، ورغم أن الرواية تنتهى بكلمة النهاية ، لكن كل هذه الأشياء ليست سوى محطات خادعة، ذلك أن النهاية نقطة بداية، لكى يبحث كل راوٍ عن سلامه المفقود، ثم لكى تبحث أنت كقارئ عن رحلة خلاص لو أردت. لذلك أقول إننا أمام رواية بارعة، قوّتها فى أنها تطوف بك العالم، لكنها فى الواقع تبحث فى عالم الإنسان الداخلى، تطرح أسئلة عن حياة روحية يثقلها الجسد، ويهزمها الكدح اليومى فى سبيل أن نعيش، ليست رواية مريحة، لكنها مقلقة ومزعجة، ولأن أسئلتها إنسانية فقد امتدت الرحلة إلى دول فى قارات مختلفة، وفى كل مرة لا يبدو الإنسان سعيدا رغم التنوع الهائل بين أفغانستان والصين وبريطانيا وكندا مصر، وفى كل مرة تحمل الروح آلاما عميقة، ولا إجابة سوى البحث، مواصلة البحث. بطلتنا لن نعرف اسمها إلا فى نهاية الرواية، تنتمى إلى كندا بالميلاد، لكن هذه الروح القلقة تهفو إلى الشرق، يقودها عملها فى شركة عابرة للدول إلى السفر للعمل فى فرع الشركة بكابل، فنراها من خلال مدير الفرع الأفغانى الشاب الباحث عن طريق للوصول عبر التصوف، تعود بطلتنا إلى كندا عبر لندن، فتكون فرصة لكى نراها من خلال عيون مراسل صحفى بريطانى عاشق للنساء، تذهب إلى شنغهاى لتلتقى زوج صديقتها الصينية التى عرفتها فى كندا، فيحكى عنها الزوج المأزوم، تهرب إلى دير فى منغوليا لتنتظر الموت وسط الزهور الأبدية، فتحكى لنا عنها سيدة الزهور التى تنتظر زوجا تركها بحثا عن نفسه، وتعود بطلة الرواية إلى القاهرة حيث يكشف لنا مخرج مصرى فاشل بقايا أسرارها، تموت البطلة/ الروح الباحثة، فتبدأ الأسئلة. تنمو شخصية البطلة، تمتلك بالتدريج شفافية أن تعرف المستور، أن تتواصل مع الأرواح الغائبة، أحلامها رؤى، ودموعها خلاص، تنقصها أجنحة لكى تكون ملاكا، كما يصفها مدير الفرع الأفغانى الشاب، حضورها الجسدى قوى ومُفصّل لكن حضورها الأكبر روحانى، لا تريد سوى أن تساعد الجميع، تساعدهم على اكتشاف طاقة الروح، وسائلها متنوعة: مِن اليوجا إلى التأمل، ومِن تراتيل المتصوفة إلى الأحجار الكريمة التى تقوم بمعادلة الطاقة، لا نستطيع أبدأ أن نقول إنها امتلكت مفتاحا أو طريقا أو معراجا محددا للروح، كل ما فعلته هو أنها لم تتوقف عن البحث، أرواح القطط السبع تحيّر دائما البشر، دون أن يدركوا أنهم يمتلكون روحا ثامنة أقوى وأعمق، لعلها تلك التى قصدتها العرَّافة الأفغانية عندما قالت لبطلتنا القلقة: لا تبحثى كثيرا، يكفى أن تشعرى بها بداخلك . تنجح نرمين يُسر إلى حد كبير فى تقمص أصوات رواتها، وتنجح فى وصف المكان بعاداته وتقاليده وأصواته ورائحته، وتحافظ على تماسك الرواية رغم انتقالاتها الزمانية والمكانية، يبدو جزء أفغانستان الأكثر طولا، حتى ظننت أن الرواية بأكملها ستكون هناك، لم تكن المشكلة فى هذه السياحة عبر العواصم، فهذا الأمر منح التجربة وأسئلتها مذاقا إنسانيا عاما، لكن المشكلة فى عدم توازن السرد فى بقية أجزاء الرحلة، كما أن بعض العناوين تخترق السرد أحيانا دون سبب موضوعى، لا مبرر مثلا أن تتعدد العناوين فى سرد الفنان الصينى المأزوم ما دام أن السارد واحد، الاستطراد فى ذكر محضر مشاجرة، أو فى حكم محكمة، لا يستدعى عناوين مختلفة، كان يمكن أن يكون البناء أقوى، خصوصا أن الفكرة لم تفلت أبدا، وهى قادرة على تجميع كل الأصوات المتعددة. لكننا عموما أمام تجربة مهمة تستحق القراءة، بل إننى أثق فى أنها ستترك فى نفس قارئها انطباعا قويا، وستصله أفكار مؤرقة كالبحث عن هُوية، والبحث عن طريق، وأسئلة أخرى عن ذلك الكنز الروحى الذى يستحق الاكتشاف فى النفس وفى الطبيعة، يبدو الحب دائما معراجا روحيا يمكن أن يقود الإنسان إلى بداية الطريق، وسط عالم المادة والصخب والعنف، ستبقى فى ذاكرتك أيضا عبارة قالها الشيخ المتصوف لتلميذه الشاب الأفغانى الحائر بين السماء والأرض، قال مولانا عندما اشتكى له التلميذ حبا يعصف به لبطلتنا الفاتنة: ابتهج، لا تبكِ، احتفل، وأقمْ مراسم لاستقبال عشق طالما تمنيته، وأعتِقْ غضبا مؤقتا سكنك ، ثم يُضيف عبارة تصلح مفتاحا للرواية كلها: اتَّبع قلبك، فكل شىء مقدَّر سلفا .