أن البعض كان يتحرج من الاقتراب من هذا الجانب العاطفى، خشية أن ينتقص بذلك من مقام النبوة أو هيبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ووقاره. وربما نزيد فى هذه الدراسة باستخدام منهج القرءاة النفسية للحدث التاريخى لمزيد من الاستكشاف لمواطن العظمة فى شخصية الرسول، صلى الله عليه وسلم. ومن المعروف أن الأنبياء والرسل هم نماذج رفيعة وراقية للسلوك البشرى السوى فى أعلى مستوياته، ولذلك حين نتأمل أى جانب من جوانب حياتهم، فنحن نحاول الاقتراب من قمة السلوك فى هذا الجانب، بما يعطى دفعة لتحسين السلوك عند سائر الناس، خصوصا المؤمنين منهم بهؤلاء الرسل أو حتى غير المؤمنين، الذين يرونهم مجرد نماذج إنسانية رفيعة. والناس يتحسن سلوكهم، حين يتمثلون شخصيات الرسل والقادة والمصلحين، وهذا ما يسمى فى علم النفس التعلم بالنمذجة (أى القدوة). وقد تميز كل نبى أو رسول بقمة من القمم، فمثلا تميز سيدنا أيوب بقمة الصبر، فأصبح قبلة للصابرين، وتميز سيدنا يوسف بقمة التعفف وضبط النفس أمام الشهوات وقمة التعامل مع الأزمات وقمة الإدارة الرشيدة للموارد وقمة التسامح مع المسيئين، فكان قبلة لكل من يهفو إلى الارتقاء نحو هذه المعالى، وتميز سيدنا سليمان بالتعامل مع الملك العظيم بزهد وعدالة، فكان منارة للملوك فى إدارتهم الملك، وتميز السيد المسيح بالزهد فى مباهج الحياة، وتميز بالمحبة والتسامح والنزوع نحو السلام فكان نبراسا لكل الزاهدين والمتسامحين والمحبين والساعين نحو السلام. ثم كان رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، خاتمًا للأنبياء، فمنحه الله تعالى كل جوانب العظمة الممكنة فى الكيان البشرى، فكان نبيا ورسولا وقائدا عسكريا وزوجا وصديقا ومصلحا ومعلما ومربيا ورفيقا وصانعا للحضارة، ووصل فى كل الجوانب إلى قمتها، ونحن الآن نقترب من أحد هذه الجوانب، وهو الجانب الرومانسى (العاطفى) فى حياته. وقد استخدمنا تعبير الرومانسية على الرغم من أن الكلمة غير عربية، لكن شيوعها على ألسنة الناس جعلها كلمة مألوفة، ولها ظلال إيجابية يتوق إليها المحبون والأزواج، وهى تعنى الحب فى ما دون الفعل الجنسى، أو تعنى المرحلة المتوسطة بين الحب الأفلاطونى (المغرق فى الخيال والذاتية) والحب الشبقى الجنسى (المغرق فى المتعة الجسدية المباشرة والعائد باللذة السريعة)، وتأتى عظمة الحب الرومانسى أنه حب واقعى لشخص حقيقى يتوجه نحو جوهر الشخص، وفى نفس الوقت لا يهدف إلى الرغبة الانتهازية أو حتى المشروعة فى الاستمتاع الجسدى، ولذلك يصبح الحب الرومانسى هو أحد مميزات الكائن البشرى فى أعلى درجات رقيه، ولذا يتعلق به كل من وصلوا أو وصلن إلى مراحل عالية من النضج الإنسانى. وفى اللغة العربية ما يزيد على عشرين اسمًا للحب، تمثل مراحل وحالات الحب عند العرب، وهذه حالة من الثراء لا نجدها فى لغات أخرى كثيرة. وفى اللغة الإنجليزية نجد ثلاثة مستويات للحب هى: الشعور بالحب (Feeling love)، وممارسة الحب بمعنى الجنس (Making love)، وأخيرًا الحياة بالحب (Living love)، والمرحلة الأخيرة حياة الحب أو الحياة بالحب تقابل الحب الرومانسى، أى أن العاشقين أو الزوجين يعيشان تفاصيل الحب فى حياتهما اليومية، وكأن حياتهما اصطبغت بالحب، وتشبعت به فى كل لحظاتها. وقد شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون للمرأة مساحة كبيرة فى حياة الأنبياء والرسل على وجه الخصوص، فنرى أهمية حواء فى حياة آدم، ونرى أهمية السيدة سارة والسيدة هاجر فى حياة سيدنا إبراهيم. ونرى أهمية المرأة فى حياة سيدنا موسى، ممثلة فى أمه وأخته وزوجة فرعون، التى ربته، ثم زوجته ابنة النبى شعيب، ونعلم جميعًا أهمية السيدة مريم للسيد المسيح. وإذا جئنا إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، نعرف أنه لم يرَ أباه، وعاش مع أمه فترات قصيرة فى بواكير طفولته وأخذته مرضعته حليمة السعدية، وحين عاد إلى أمه تركته، وهو ابن الرابعة أو الخامسة، فاحتضنته أم أيمن مربيته تحت رعاية جده عبد المطلب، ثم تحت رعاية عمه أبى طالب، وحين كبر كانت السيدة خديجة أهم سند له، ثم جاءت زوجاته الأخريات بعد ذلك، ليكون للمرأة دور محورى فى حياته، يفوق أدوار كثير من الرجال، ومن هنا كانت المرأة تحتل مكانة مركزية فى وعيه عليه الصلاة والسلام، لكونها إنسانة كرّمها الله، ولكونها امرأة راعية للحياة، وواهبة لها بإذن ربها. ولهذا نراه يقول: حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة ، فوضع المرأة بين محبوب جميل وهو الطيب (العطر)، ومحبوب مقدس هو الصلاة، وهذه مكانة لم تصل إليها فى الوعى البشرى قبل ذلك. وقد جعل معيار الخيرية للرجل مرتبطًا بكيفية تعامله مع زوجته وأهل بيته: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى (رواه الترمذى وابن ماجه). ويجعل معاملتهن معيارا للكرم أو اللؤم عند الرجال لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم ، ويعلن أن من رزق ثلاث بنات فأحسن تربيتهن ورعايتهن دخل الجنة. وقد كان هذا الموقف من المرأة طفرة هائلة فى بيئة بدوية صحراوية جافة، وفى مجتمع ذكورى إلى حد التعصب، مجتمع كان يعتبر إنجاب الأنثى عارا يستلزم وأد البنت وهى صغيرة. إذن هذه هى القاعدة من التقدير والاحترام للمرأة بوجه عام، التى سينطلق منها سلوكه، صلى الله عليه وسلم، مع زوجاته ليتعلم كل الرجال على مر التاريخ الإنسانى كيف يتعاملون مع المرأة. حب خديجة له ووفاؤه وإخلاصه لها وتبدأ رومانسية حياته من لدن خديجة زوجته، رضى الله عنها، فقد أعجبت بخلقه وأمانته ومهارته فى التجارة وشخصيته، فلم تتردد فى محاولة الاقتراب منه، لكن بطريقة محترمة من خلال صديقتها نفيسة، التى فهمت مراد خديجة، وعرضت على محمد خطبتها، وتم الزواج، وعاش وفيا لها طوال حياتها، وحتى بعد مماتها، وحين رأى الوحى لأول مرة فى غار حراء، عاد يرتجف خوفًا، ويحتمى ببيت خديجة، ويستشعر الأمان فى رحابها ويقول زملونى زملونى... دثرونى دثرونى ، وقد ظن به الناس مسا من الجن، لمكوثه فى الغار البعيد وحيدا، لكن خديجة الزوجة المحبة الوفية، التى تثق بزوجها وتقدره يكون لها رأى آخر تعبر عنه بقولها: لا يخزيك الله أبدا فإنك تصل الرحم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر ، وتكون هى أول من يؤمن به، ويؤازره ماديا ومعنويا. وقد بادلها إخلاصا ووفاءً، فلم يتزوج عليها طيلة ما يقرب من عشرين عامًا عاشتها معه، وحتى بعد وفاتها ظل يذكرها بالخير أمام الناس، ويقول إنى رزقت حبها (رواه مسلم)، فهو يعتبر حبها رزقا ونعمة، ويعلن ذلك الحب على الملأ، ويحتفى بصديقاتها، وكان إذا ذبح شاة قال: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة (رواه مسلم). وفى يوم ردت عائشة عليه، وقالت: أمازلت تذكر خديجة، وقد كانت عجوزا أبدلك الله خيرا منها ، فرد على الفور: لا والله ما أبدلنى الله خيرا منها على الرغم من حبه الشديد لعائشة، رضى الله عنها، لذلك قالت السيدة عائشة ما غرت من أحد من نساء النبى ما غرت على خديجة وما رأيتها، لكن كان النبى يكثر ذكرها (رواه البخارى). وكانت خديجة تمثل للرسول الزوجة الأم، وكان هو فى حاجة إلى هذا النوع من الرعاية، خصوصا أنه فقد أمه فى سن مبكرة، وواجه فى حياته متاعب جمة، فكانت له نبع الحنان. حبه لعائشة رضى الله عنها ربما يتبدى أعلى مستوى للرومانسية فى علاقة الرسول بالسيدة عائشة، حيث كانت أحب زوجاته إليه وأصغرهن سنا، وربما كان الرسول على نفس القدر من الرومانسية مع بقية زوجاته، لكن عائشة كانت أكثر قدرة على حفظ المواقف والأحداث وأكثر نشاطا فى رواية الحديث عن الرسول، صلى الله عليه وسلم. ولنستعرض بعض هذه المواقف: - بينما يخجل كثير من الرجال من ذكر أسماء زوجاتهم (يقولون الجماعة أو الحريم أو أم فلان) نرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجاهر بحبه لزوجته عائشة على الملأ. عن عمرو بن العاص أنه سأل النبى، صلى الله عليه وسلم: أى الناس أحب إليك؟ . قال: عائشة ، فقلت: من الرجال؟ قال أبوها . واضح أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يتردد فى ذكر عائشة فورا، وأنه نسب أبو بكر إليها فى الحب، فلم يذكر اسمه رغم أهميته بالنسبة للرسول، صلى الله عليه وسلم، لكنه قال أبوها . - تقول عائشة، رضى الله عنها: أهوى النبى صلى الله عليه وسلم ليقبلنى فقلت: إنى صائمة، فقال: وأنا صائم فقبلنى (رواه الترمذى). وفى رواية: كان النبى صلى الله عليه وسلم يظل صائما فيقبل ما شاء من وجهى . - وتحكى عائشة، رضى الله عنها، أنها كانت تغتسل مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى إناء واحد فيبادرها وتبادره حتى يقول لها دعى لى، وتقول له دع لى (رواه مسلم والنسائى). وهنا تبدو روعة المداعبة أثناء الغسل، وتنسى عائشة لفرط بساطة الرسول وتواضعه أنها تتعامل مع سيد البشر. - تقول السيدة عائشة، رضى الله عنها: كنت أشرب فأناوله النبى صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فى (رواه مسلم). أى أنه يتعهد الموضع الذى وضعت فمها عليه، فيشرب منه حبا وعشقا واستمتاعا. - وتقول عائشة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتكئ فى حجرى، وأنا حائض (رواه مسلم). وعن ميمونة، رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدخل على إحدانا، وهى حائض فيضع رأسه فى حجرها فيقرأ القرآن (رواه أحمد). وهذه لمحة جميلة، لأن المرأة فى مثل هذا الوقت تنتابها مشاعر مضطربة من الألم، وفقد الثقة بالنفس، وربما يبتعد الرجل عن زوجته أو ينفر منها فى تلك الظروف، وفى بعض الثقافات كان الرجال يهجرون زوجاتهم فلا يؤاكلوهن ولا يخالطوهن، ويعتبرون أن المرأة ملوثة أو مدنسة فى وقت حيضها. والرسول الكريم المحب، صلى الله عليه وسلم، كان يمحو كل هذه الأفكار والمعتقدات الخاطئة بأن ينام فى حجر زوجته، وفى بعض الروايات كان يقرأ القرآن، وهو فى هذه الحالة. - وتقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل رأسه، وهو فى المسجد فأرجله (رواه مسلم). فهو يسلم لها رأسه لتمشط شعره بيدها.. أىّ جمال هذا! وأىّ مشاعر جميلة فى هذه العلاقة الزوجية الراقية؟!. - وكان إذا جاء الليل سار مع عائشة يتحدث (رواه البخارى). أى أنه يتنزه ويسمر ليلا معها فى بيئة صحراوية جافة، ربما لا تعرف مثل هذه الطقوس الحميمية. - وقد سئلت عائشة: ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يصنع فى بيته؟ فقالت: كان فى مهنة أهله (رواه البخارى). أى كان يساعدهم فى الأعمال المنزلية، وفى رواية كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ، وهذا مما يجعل الرجل قريبًا من زوجته ومحبوبا لها، ويقلل من مساحة الرهبة فى علاقتها به، خصوصا لو كان زوجا بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. - وكان صلى الله عليه وسلم عائدا من غزوة فتأخر عن الجيش بعض الشىء وراح يتسابق مع عائشة، فتحكى أنها سبقته حين كانت صغيرة (خفيفة الجسم)، لكنه كان يسبقها بعد ذلك (حين حملت اللحم وزاد وزنها). وهذا يعكس روحًا لطيفة تهتم بهذا الجانب العاطفى بالزوجة حتى فى الظروف الصعبة، إذ كان عائدا لتوه من غزوة فيها الدماء والقتل، ولديه الكثير من الهموم والمشاغل كرسول يبلغ الدين عن ربه وكقائد سياسى وعسكرى يواجه مشكلات جمة يعبر عنها حين وقف أمام جبل أحد يقول للجبل: لو أن بك ما بى لهدّك ، ومع هذا لا ينسى حق زوجته فى المداعبة والملاعبة. - ولم يكن ينادى عائشة باسمها، لكن بأسماء تدليل فيقول لها: يا عائش أو يا حميراء. - وكان له جار فارسى يجيد طبخ المرق، فصنع لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، طبقا ثم جاء يدعوه فرفض الرسول مرتين، لأن جاره لم يدع معه عائشة، وهو ما فعله الجار فى النهاية. - وتحكى السيدة عائشة أنه كان يوم عيد وكان الأحباش يلعبون فى المسجد، ووقفت تشاهدهم من خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بينما وضعت ذقنها على كتفه وأسندت وجهها إلى خده، وكلما قال لها الرسول حسبك (أى كفى هذا القدر) تلح عليه فى الاستمرار، وكأنها كانت سعيدة بمشاهدة ألعاب الحبشة، كما كانت سعيدة أيضا بوقفتها خلف الرسول تلامس ذقنها كتفه ويلامس وجهها خده فى حالة رومانسية رائعة. - وقد سئلت عائشة عن أول شىء كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يدخل البيت فقالت: كان يستاك ، أى يستعمل السواك كى يكون فمه نظيفا معطرا، فأى اقتراب من الزوجه قد تكدره رائحة الفم. - وكان صلى الله عليه وسلم يسعده أن تفرح عائشة بزيارة صاحباتها، وربما يدعهن إليها ليدخل السرور على قلبها، تقول السيدة عائشة: كانت تأتينى صواحبى فكن ينقمعن (يتغيبن) من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يسربهن (يرسلهن إلىّ) (رواه مسلم). - تصفه عائشة، رضى الله عنها، فى بيته فتقول: كان ألين الناس، ضاحكا بسّاما . - حدث خلاف بين الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعائشة، فقال لها من ترضين بينى وبينك.. أترضين بأبى عبيدة؟.. قالت: لا يحكم لى.. أترضين بعمر؟.. قالت: أخافه.. أترضين بأبيك؟.. قالت: نعم. فلما جاء أبوها قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: تتكلمين أم أتكلم؟ قالت: تكلم ولا تقل إلا حقا. فرفع أبو بكر يده فلطم أنفها فولت عائشة هاربة منه، واحتمت خلف النبى، صلى الله عليه وسلم، فقال لأبى بكر معاتبا: ما لهذا دعوناك، وانصرف أبو بكر، ثم توجه الرسول، صلى الله عليه وسلم، يداعبها ويذكرها باحتمائها به من أبيها، فتضحك ويضحك هو، ويعود أبو بكر على ضحكاتهما فيقول: أشركانى فى سلامكما كما أشركتمانى فى حربكما . - وكان حادث الإفك طعنة هائلة فى علاقة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بزوجته المحبوبة، إذ أشاع المنافقون سوءا فى ما يخص سلوك السيدة عائشة، واتهموها بعلاقة مع صفوان بن المعطل، حين تأخرت عن الجيش لقضاء الحاجة، ووجدها صفوان فحملها على بعيره، وعاد بها إلى الجيش، فقال عبد الله بن أبى بن سلول (رأس المنافقين): والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وانتشر هذا الكلام فى المدينة، وكان ذلك جرحا كبيرا للرسول وزوجته، خصوصا فى مكانته كرسول وقائد وزعيم، وفى زوجته الأثيرة، وفى ما يمثله الشرف فى البيئة العربية الصحراوية. ومع هذا نراه يقول لها والحزن يملأ قلبه: إن كنت قد أتيت ذنبا فاستغفرى الله، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله .... وبعد مرور ما يقرب من شهر من الألم والمعاناة لبيت النبوة تأتى البراءة من السماء للسيدة عائشة، ويفرح بها الرسول، وتعود السعادة إلى البيت بعد هذا الزلزال العنيف. - وقد مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو على صدر عائشة، وكان فى يدها سواك فنظر إليه، ففهمت عائشة أنه يريد أن يستاك فبللت السواك بريقها، ثم وضعته فى فم الرسول، وبهذا اختلط ريقها بريقه، وكان ريقها آخر شىء يدخل فمه قبل موته، وكأنها قبلة وداع بين زوجين محبين، وهى صورة رائعة لزوج عظيم ورسول هو أعظم الرسل تفيض روحه، وهو فى حضن أو حجر زوجته المحبة، وفى هذا تقول السيدة عائشة قبض الله تعالى نفسه (أى الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو بين سحرى ونحرى ، ودفن فى حجرتها موضع الذكريات الجميلة بينهما. رومانسيته مع زوجاته عامة - على الرغم من مسؤولياته وأعبائه الكثيرة، فإن ذلك لم يمنعه أن يتفقد أحوال زوجاته يوميا. عن ابن عباس، رضى الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس فى مصلاه، وجلس الناس حوله حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه امرأة امرأة يسلم عليهن ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها . (فتح البارى فى شرح صحيح البخارى). - كان أنجشة يحدو الإبل التى تحمل بعض زوجات الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأسرع بهن بعض الشىء، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير (رواه البخارى)، فهو يعبر عنهن تعبيرا رقيقا، ويخشى عليهن، وكأنهن قوارير زجاجية لا تحتمل المشقة أو الجهد، بل يلزمها الرفق واللين والرحمة والمحبة. - كان يداعب زوجاته فى أثناء الحيض، فعن ميمونة، رضى الله عنها، قالت: كان صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض (رواه البخارى)، وهذا يشعر الزوجة أنها مرغوبة ومحبوبة ومطلوبة حتى فى وقت حيضها، لكن فى الحدود التى سمح بها الشرع. - دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على زوجته صفية بنت حيى بن أخطب فرآها تبكى فسألها لم تبكين؟ قالت: حفصة تقول إنى ابنة يهودى، فقال: قولى لها زوجى محمد وأبى هارون وعمى موسى. فطيب خاطرها وجعل لها نسبًا تفخر به. - فى الوقت الذى يقلل الرجال فيه من عقل المرأة ومن حكمتها نرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأخذ برأى أم سلمة فى أزمة صلح الحديبية، وكان رأيا صائبا. وكان يقول عن عائشة: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء . - عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، قال: صخبت علىّ امرأتى فراجعتنى، فأنكرت أن تراجعنى، قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل (رواه البخارى). وفى هذا الحديث دليل على أن بساطة الرسول وتواضعه مع زوجاته كانا يجعلان الزوجات يعاملنه كأى زوج، حيث ينسين مهابة النبوة وعظمة الرسول، فتراجعه إحداهن أو تهجره وتخاصمه. - كانت صفية مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى سفره، وكان ذلك يومها، فأبطأت فى المسير، فاستقبلها رسول الله وهى تبكى، وتقول: حملتنى على بعير بطىء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها . (رواه النسائى). - لم يجعل من هيبة النبوة وعظمة الشخصية حاجزا أو رادعا بينه وبين زوجاته، فكنّ أحيانا يتمردن عليه أو يهجرنه أو يجتمعن عليه أو يطلبن منه زيادة فى النفقة، ويثقلن عليه فى ذلك، وكان هذا بسبب فرط تواضعه وطيبته وسماحته وبساطته وحبه لهن. وصايا عامة للأزواج - وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصى الرجال عمومًا بقوله: اغسلوا ثيابكم وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا فإن بنى إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم . (عن كتاب عبقرية محمد لعباس العقاد). - ويقول صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح فى وجهها الماء (حسنه الألبانى). فها هما زوجان صالحان يقومان الليل معا فى سكينة وطمأنينة بين يدى خالقهما فى أجواء روحانية سامية، فإذا تكاسلت الزوجة عن القيام فلتكن المداعبة بالماء كى تصحو لتشارك فى هذا العرس الروحانى الصافى مع زوجها. - يقول صلى الله عليه وسلم مخاطبا ومعلما الرجال: حتى اللقمة تضعها فى امرأتك يكون لك بها صدقة . - وتحكى عنه عائشة رضى الله عنه قائلة: لم يضرب بيده الشريفة امرأة قط . - يقول صلى الله عليه وسلم: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضى منها آخر (رواه مسلم)، فهذه هى قمة الإنصاف والرحمة، إذ لا توجد امرأة كاملة (أو رجل كامل)، فإذا لم يعجبه شىء منها فلينظر إلى مزايا أخرى فيها. - التمهل على الزوجة وقت الجماع حتى تصل ذروتها. يقول صلى الله عليه وسلم: إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضى حاجتها فلا يعجلها حتى تقضى حاجتها . - وكان إذا عاد هو وأصحابه من سفر لا يدخل المدينة فجأة بل يرسل الخبر حتى تستعد الزوجات لاستقبال أزواجهن بشكل جيد، وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم: إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تمتشط الشعثة (تمشط شعرها) وتستحد المغيبة (تزيل الشعر الزائد من جسمها) . - والرسول، صلى الله عليه ويسلم، يقدر ويحترم ميل القلوب والأرواح فيقول: لم ير للمتحابين مثل التزويج (رواه ابن ماجه والحاكم فى المستدرك وقال حديث صحيح على شرط مسلم). هذه رومانسية الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، التى قد ينكرها بعض المتظاهرين بالوقار، وهذه هى مشاعره الرقيقة التى لا يعرفها غلاظ القلوب والأرواح، ولا يدركها من لديهم جفاف حس وبلادة مشاعر وجلافة ذوق، فهو معلم للبشر فى كل جوانب الحياة، ومنها ذلك الجانب العاطفى، الذى يميز الإنسان فى أقصى درجات رقيه.