اتصل المدير المالى للصحيفة بمدير التحرير: قاصدك فى خدمة يا عادل باشا، وإنت عارف طبعا إنى من النوع اللى بيرد الخدمة بضعفها.. ضحك عادل ضحكته الخبيثة وهو يقول: خير يا حامد بيه، بس بدل آخر سفرية متأخر عندك من أسبوعين بحجة تجاوز الحد الأقصى. ■ تعالى اقبض بكره، هكذا رد المدير المالى ليحسم موقف عادل، الذى قال بلهجته الريفية: إنت تؤمر يا كينج، إيه الخدمة؟ طلب المدير المالى فرصة عمل لصحفية شابة يهمه أمرها، فقال عادل: بسيطة ابعتهالى بكرة الساعة 12. دخلت حسناء مقر الصحيفة، وهى مرتبكة، تتلفت بدهشة، حتى ارتاب فيها موظف الاستقبال فسألها بخشونة: إنت عاوزه حاجة يا آنسة؟ قالت: عندى معاد مع الأستاذ عادل مدير التحرير. نظر إليها بازدراء، وهو يقول لها: طب وسّعى الطريق، واستنى على جنب لما أتصل بيه، وبعد دقائق من الانتظار سمح لها بالدخول، وهو يقول لها: الطرقة دى تالت مكتب ع اليمين. فوجئ عادل بالفتاة التى توسط لها حامد المدير المالى اللعوب، كان يتصور أنها مزة من النوع الذى يشاهده مع حامد، فإذا به يرى فتاة نحيلة، قصيرة القامة، ضعيفة البنية، ترتدى حجابا أقرب إلى الخمار يزيد من انحناءة ظهرها، إضافة إلى ارتدائها نظارة ذات عدسات سميكة كانت سببا بعد ذلك فى لقب أم قعر كباية ، التى كان الزملاء يصفونها به للسخرية منها. لم يسألها الأستاذ عادل عن خبرتها فى الصحافة، ولا الكلية التى تخرجت فيها، لكن بدافع الفضول سألها: ■ اسمك إيه؟ - حسناء عبد اللطيف. ■ تعرفى الأستاذ حامد منين؟ - صاحب بابا. ■ والدك بيشتغل إيه؟ صمتت حسناء، فكرر الأستاذ عادل السؤال: والدك فى مجال المحاسبة والبنوك؟ قالت حسناء: لأ عمل خاص. ■ اشتغلتى صحافة قبل كده؟ - لأ. ■ تحبى تشتغلى فى أى قسم؟ - أى حاجة. ■ طيب عدى عليا السبت الجاى أكون رتبت لك مكان مناسب. خرجت حسناء بسرعة كأنها تهرب من الجحيم، بينما همس عادل لنفسه: أعمل إيه فى البلوى دى؟ ساحب بابا .. قالها باشمئزاز وخنفة مصطنعة، وهو يقلد حسناء ساخرًا، فى الوقت الذى دخلت فيه مدام فادية مشرفة صفحة بريد القراء ، فقالت له بطريقتها الذكورية: مالك يا عادل، بتكلم نفسك؟ ■ جورنال يلحس العقل، المهم جيتى فى وقتك، هبعت لك يوم السبت صحفية جديدة تتدرب عندك. هى خيبة شوية، بس أمرها يهمنى، اتصرفى معاها من غير ما تطفشيها زى كل مرة. - تضحك فادية، وهى تسعل بطريقة رجولية: إنت اللى بتحدفلى الواقعين يا عدولة، استنضف مرة، وأنا عينى ليك (يضحكان). صباح السبت حضرت حسناء، وأخذها مدير التحرير لمكتب مدام فادية، حيث استلمت عملها من الناحية الشكلية، لكنها عمليا لم تفعل شيئا سوى قراءة الصحف، والاستماع إلى الشتائم والنكت البذيئة، التى لا تكف عنها مدام فادية، وذات يوم استجمعت شجاعتها، وسألت رئيسة القسم: هو أنا مش هاعمل حاجة؟ - نعم يا أختى؟! ■ يعنى حضرتك مش عاوزانى أساعد فى أى شغل؟ - إنتى بتعرفى تعملى إيه؟ ■ عاوزه أشتغل فى الصحافة؟ - تشتغلى إيه يعنى؟.. تقعدى بفرشة جرايد ع الرصيف. قالتها فادية بعدوانية واستخفاف، لكن حسناء ردت بهدوء دون أن يبدو عليها تأثر من هذه العدوانية: لا أنا عاوزه أكتب. تراجعت فادية عن عدوانيتها لسبب لم تفهمه، ومدت يدها فى الدرج، وأخرجت ملفا مليئا بالأوراق، وقالت لها: دى شكاوى ورسائل رأى من القراء على كل لون، اختارى رسالة تعيدى صياغتها فى 500 كلمة، والباقى تليغرافات قصيرة بين 30 و120 كلمة. بعد ساعتين سلمت حسناء الرسائل للأستاذة فادية، التى نظرت إليها نظرة مختلفة، وهى تقول: اقعدى يا حسناء، إنت اشتغلتى فين قبل كده؟ ■ دى أول مرة فى حياتى أشتغل صحافة. - مش معقول.. إنت موهوبة بشكل غير عادى. ■ أصل أنا باكتب قصص. نسى عادل أمر حسناء، لكنه ذات يوم تعجب أن فادية لا تشكو منها، ولم تطردها كما حدث مع كثيرات، فاستدعاها يسألها: أخبار البلوى اللى عندك إيه؟ فوجئ عادل بفادية تدافع عن حسناء بلهجة لم يتعودها منها: دى أحسن صحفية دخلت الجورنال، بنت موهوبة، وعملت نقلة فى الصفحة بعناوينها وصياغتها للقصص بشكل إنسانى رائع، أنا عاوز أعمل لها زاوية صغيرة فى الصفحة باسمها. ■ إنت اتجننتى يا فادية؟ صحفية ماكملتش سنة، ولسه من غير تعيين تعمليلها زاوية باسمها؟ - أنا كتبت طلب لرئيس التحرير ووافق على تعيينها. ■ دى وراها توصية تانى من حامد بقى، أكيد بينه وبين أبوها بيزنس ومصالح كبيرة. لم تعلق فادية، فقال عادل: هوه إيه الموضوع أنا مش فاهم لغز البنت دى؟ ■ قالت فادية: موهوبة يا عادل، أنا مرة سألت حامد عنها، وعن سر توسطه لها، فقال لى بلا مبالاة: سر إيه وكلام فاضى إيه؟ دى بنت البواب، ودوشنى وأنا طالع نازل، والنبى يا بيه تشغل البنت حداك فى الجورنان، وكلمت عادل عنها ونسيت الموضوع. أخفض عادل رأسه وجلس على الكرسى فى ذهول، وفى العام التالى كان يتصدر الحفل الذى دعا إليه لتكريم حسناء بعد حصولها على جائزة أفضل كاتبة للموضوعات الإنسانية. كانت حسناء تبتسم فى خجل، بينما دموع فادية تنزل على خديها، لأن أم قعر كوباية انتصرت أخيرًا، ونالت بموهبتها حب واحترام الجميع حتى أولئك الذين أهانوها وسخروا منها دون أن يعرفوها.