عندما اشتد البلاء على المصريين فى عصور تاريخية مختلفة، استعانوا على المصائب بالنكات والفهلوة والهجص والكيف والاستهتار بالحياة الظالمة. ولكثرة اشتداد البلاء على مر العصور صارت وسائل الاستعانة عليه تلك من صفات المصريين. وإذا أراد المصريون تغيير أنفسهم فلا بد لهم من مواجهة الحياة بشجاعة ومواجهة البلاء بالعمل وليس بالفهلوة والاستهتار. وقد بلغ الاستهتار بالحياة حد أننا أصبحنا نميل إلى طلب المساعدة من الآخرين، ليقوموا بعمل ما يجب أن نعمله نحن لأنفسنا، فصرنا شعبا فقيرا وجاهلا وضعيفا (أكثر من نصف المصريين يعيشون على أقل من دولارين يوميا وما يقرب من نصفهم أميون ومعظمهم يعانى من أمراض الكبد والكلى والسكر والضغط) على الرغم من أن ثروات هذه الأمة البشرية والطبيعية تؤهلها، لأن تكون فى مصاف الأمم المتقدمة. ولأننا اليوم نبحث عن طريق صحيح لبناء دولة ديمقراطية حديثة، فقد يكون من المفيد أن نتعلم من تجارب الآخرين، ليس على غرار ما تعلمناه من التجربة الدنماركية لعادل إمام، ولكن على غرار ما يجب أن نتعلمه من تجربة كوريا الجنوبية التى كانت واحدة من أفقر الدول فى العالم فى الخمسينيات، وبدأت تجربتها التنموية معنا فى الستينيات. انظروا الآن أين تقف كوريا الجنوبية وقارنوا بين تجربتنا وبين تجربتهم. ولقد شد انتباهى فى السنوات الأخيرة التقدم السريع لجمهورية فيتنام الاشتراكية، التى حاربت الفرنسيين وانتصرت عليهم، وحاربت الأمريكان وهزمتهم وأذاقتهم طعم الذل، وهى الآن بعد أن توحدت وأنهت انقسامها بين شمال وجنوب، تجرى بسرعة بالغة على مسار دقيق للتنمية، بطريقة حازت احترام العالم كله بما فيه أعداءها السابقين. لم تستورد فيتنام أصول تجربتها التنموية من البنك الدولى ولا من صندوق النقد، ولم تحصل على معونات خليجية بالمليارات، ولم تطرد شبابها إلى عرض البحر طلبا للرزق. ونجحت فى أن ترفع متوسط الدخل الفردى من 100 (مئة) دولار سنويا فى السبعينيات إلى أكثر من ألفى دولار هذا العام (2014). وحققت خلال الفترة منذ 1990 حتى الآن معدل نمو متوسط يزيد على 7% سنويا. وزاد إنتاجها من السلع المصنعة بنسبة 22% سنويا فى العقد الأول من القرن الحالى. وبلغت قيمة تجارتها الخارجية أكثر من 250 مليار دولار، منها 125 مليار دولار صادرات. وتعتبر الصناعة هى محرك النمو والتصدير فى فيتنام، فمعدل نمو الإنتاج الصناعى يزيد على ضعف معدل النمو الاقتصادى، كما تزيد صادراتها بنسبة 20% سنويا. ولم تتحقق هذه النتائج بالاستدانة أو على حساب التوازن الاقتصادى الكلى أو العدالة الاجتماعية. فمعدل البطالة فى فيتنام يبلغ حاليا نحو 4%، وعجز الميزانية فى حدود 1.2% من الناتج المحلى الإجمالى، والدين العام الخارجى لا يزيد على 53% من الناتج، وتستهدف الحكومة الحالية تخفيضه إلى 48% هذا العام. وحققت فيتنام نتائج مبهرة فى مجالات التعليم والرعاية الصحية ومكافحة الفقر. ونجحت من خلال سياسات إنتاجية وتوزيعية فى تخفيض نسبة السكان تحت خط الفقر المدقع (أقل من دولار واحد يوميا للفرد) من نحو 60% (1993) إلى 21% (2006) ثم إلى 14.5% (2010). وانتقلت من جدول الدول المتخلفة الفقيرة إلى جدول الدول النامية، وأعلنت فى عام 2009 أنها تستهدف الانتقال إلى جدول الدول متوسطة الدخل، تمهيدا للدخول إلى نادى الدول الصناعية! وتعتبر صناعة الملابس الجاهزة من أهم قطاعات الإنتاج فى فيتنام فى الوقت الحاضر. وهى لا تزرع القطن وإنما تستورده من الولاياتالمتحدة والهند وجنوب إفريقيا، ثم تقوم بتصنيعه وتصدير الملابس الجاهزة. وأصبحت فيتنام فى غضون سنوات قليلة خامس أكبر مصدرى الملابس الجاهزة فى العالم! وتستهدف الآن زيادة قيمة صادراتها من الملابس الجاهزة فقط إلى 18 مليار دولار ثم إلى 25 مليارا فى عام 2020! لكن فيتنام تتحول حاليا إلى صناعات القيمة المضافة الأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية. وقد بدأت بتطوير صناعات الكمبيوتر والإلكترونيات، والدخول فى سلاسل عالمية Global Value Chains لإنتاج السلع ذات القيمة العالية، وتوسعت فى عقد اتفاقيات لتحرير التجارة مع جيرانها ومع التجمعات الاقتصادية الكبرى فى العالم. وبذلك نجحت فى جذب استثمارات أجنبية مباشرة فى قطاعات الصناعات التحويلية بمعدل يبلغ 10 مليارات دولار سنويا. وبسبب كل ذلك تغيرت فيتنام التى خاضت حروبا قاسية، وعانت من آثار الحروب فى الدول المجاورة لها (لاوس وكمبوديا وتايلاند)، وتحولت من دولة زراعية فقيرة تعتمد على تصدير الأرز والأسماك إلى دولة تشق طريقها بسرعة إلى نادى الدول الصناعية. إن فيتنام التى بهرت العالم فى حربها ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية، تبهر العالم الآن مرة أخرى بإصرارها على البناء وعلى التقدم، وبناء نموذج جديد من التنمية بالاعتماد على الذات والانفتاح على العالم والسعى للاندماج فيه بقوة على غرار النموذج الصينى. وحرى بنا بدلا من أن نتهكم على أنفسنا ب التجربة الدنماركية أن نتعلم من التجربة الفيتنامية التى ستثبت السنوات المقبلة أنها واحدة من أعظم تجارب التنمية فى العالم فى القرن الواحد والعشرين.