أدت مجموعة من الأتراك صلاة الغائب فى مسجد بإسطنبول على روح الأخوين «كواشى»، اللذين شنا الهجوم على صحيفة «شارلى إبدو» الفرنسية الساخرة، ورددوا هتافات مؤيدة لتنظيم «القاعدة»، وذلك فى حراسة الشرطة التركية التى تدخلت فقط عندما أرادوا الخروج من المسجد للقيام بمسيرة فى شوارع المدينة. يأتى ذلك فى الوقت الذى تحولت تركيا إلى ملاذ آمن للمتطرفين من كل أنحاء العالم، ومن مختلف الجنسيات، كما تحولت الأراضى التركية إلى بوابة عبور المقاتلين الذين يرغبون فى الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش) ، وباتت المستشفيات التركية ملاذ جرحى ومصابى التنظيم للحصول على العلاج. أيضا باتت الموانى التركية بوابة عناصر تنظيم الدولة للتوجه إلى ليبيا من أجل القتال ضد الجيش الوطنى الليبى. هكذا تحولت تركيا فى عهد حزب العدالة والتنمية، الفرع التركى للتنظيم الدولى للإخوان، إلى قاعدة للتطرف، تبدل حال الدولة التركية من دولة علمانية تجتهد لدخول الاتحاد الأوروبى، إلى قاعدة للتطرف وملاذ آمن للمتطرفين من مختلف الجنسيات. كان النظام التركى منذ وضع أسسه أتاتورك نموذجا للنظام العلمانى فى بلد تدين غالبية سكانه بالإسلام السنى، فقد نجح الرجل الذى أنهى الخلافة فى تحديث تركيا ووضعها على أول طريق الحداثة، وكان النظام التركى الأتاتوركى يقدم باعتباره مثالا على إمكانية اتباع الديمقراطية الغربية فى مجتمع إسلامى، دمج أتاتورك بلاده فى الغرب تماما، ونجح فى دفع أوروبا للتعامل مع تركيا باعتبارها دولة أوروبية رغم أن أراضيها الواقعة فى أوروبا لا تزيد على 5٪ من مساحة تركيا الإجمالية، قاد تركيا لعضوية حلف شمال الأطلنطى، وطرق أبواب الجماعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبى) بشدة. قدمت واشنطن النظام الأتاتوركى التركى باعتباره المثال والقدوة للعالم العربى فى كيفية بناء نظام ديمقراطى علمانى فى دولة تدين غالبية سكانها بالإسلام. مع فوز تيار الإسلام السياسى بغالبية مقاعد البرلمان المصرى، ثم الفوز بمنصب الرئيس وسيطرة التنظيم على الأوضاع فى تونس واليمن، والانتشار فى العراق وليبيا وسوريا، بدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا يخرج عن تحفظه ويعلن دعمه المباشر للتنظيم الدولى للجماعة، بل ويدخل مباشرة طرفا فى المعارك والحروب التى تشنها الجماعات المتطرفة ضد أنظمة حكم عربية. وقعت الصدمة الكبرى للنظام التركى فى الثلاثين من يونيو، عندما ثار المصريون على حكم المرشد والجماعة وأطاحوا به، هنا فقد رئيس الوزراء التركى اتزانه، ودخل فى مواجهة سياسية مفتوحة مع النظام المصرى الجديد، ومنح أعضاء التنظيم الدولى ملاذا آمنا، وباتت تركيا مقرا لاجتماعات التنظيم الدولى وحياكة المؤامرات ضد النظام المصرى الجديد. وبدا واضحا أن أردوغان الذى أصبح رئيسا لتركيا قرر تحويل وجهة بلاده نحو الشرق فى محاولة لإعادة استنساخ الخلافة العثمانية من جديد، فقد أيقن الرجل أن بلاده لن تدخل الاتحاد الأوروبى، ومن ثم قرر أن يجعل من بلاده كبير الشرق وممثل العالم الإسلامى عبر إعادة استنساخ الخلافة، وهو ما يفهم من طريقة استقبال الرئيس الفلسطينى محمود عباس مؤخرا، حيث أفسح أردوغان مكانا لممثلين عن العثمانى على مر التاريخ. وحوّل أردوغان بلاده من نموذج لدولة ديمقراطية علمانية فى مجتمع تدين غالبيته بالإسلام إلى قاعدة للتطرف وملاذ آمن للإرهابيين من شتى أنحاء العالم، وهو بذلك يحطم النموذج الذى بناه أتاتورك عبر عقود عديدة، ويدفع بتركيا إلى أحضان العالم الثالث لتستقر فيه فترات طويلة.