أى كاتب عمود يومى أو أسبوعى أو حتى شهرى، فى حاجة إلى نَفس طويل وذاكرة الفيل مع كل مقال يكتبه. تفسير هذه الحالة هو أنه مثل الغطس تحت الماء والبحث عن فكرة أو خط أو ذكرى أو رأى فى موضوع ما قبل العودة إلى السطح وكتابة المقال وإرساله للنشر، مشوار فى حاجة إلى نَفس طويل. أما بالنسبة إلى ذاكرة الفيل، فهى أساسية حتى لا يكرر الكاتب موضوعه أكثر من مرة، فكم من محترفى المقالات وقعوا فى مأزق ذاكرة ما كتبوه من قبل والموضوع الذى تطرقوا إليه. عانيت كثيرًا فى تجنُّب هذا المأزق، خصوصًا أن المتوقع دائمًا فى ما أكتبه أن يتطرق بأى سُبل للكتابة عن السينما. وحتى لا يصبح ما أكتبه سلسلة من النميمة لما يدور فى الكواليس، أو أضطر إلى أن أسلك اتجاه نقد للأفلام، وهو اتجاه حرج ومرفوض منى لوجودى كمخرج لا يزال يُخرج أفلامًا. فبالتالى تضيق النوافذ وتغلق الأبواب أمامى حتى أجد منفذًا لمقال أسبوعى جديد. يتبقَّى الخوض فى مشكلات السينما ومحاولة إلقاء الأضواء نحو سلبياتها، علمًا بأنه دون أدنى شك لا يوجد مقال يحل أيًّا من مشكلات سينما تخضع لقوانين حكومة تُخالف لوائح نقابات قليلة الحيلة، وتحت سيطرة رأسمال جشع. كل هذا يستدعى تساؤلًا عن مغزى كتابة أى مقال غير التنفيس عن الذات، وكأن المقال ليس سوى كرسى اعتراف بما يدور فى حياة كاتب تمسّه السينما ولا يستطيع التخلّى عنها. أتابع مقالًا يوميًّا لناقد سينمائى أستمتع بكتاباته وقدرته فى التعامل مع السينما وخباياها وآثارها على مجتمعنا، وإثارة قضاياها يومًا بعد الآخر، دون الخدش الصريح بمرتكبى جرائمها، والمطالبة بالتصحيح اللازم والدق على أبواب أصحاب الحلول. فهو مثال لطاقة لا يُستهان بها، فقد نجح فى أن يصبح مقاله اليومى منبرًا يطل من عليه على عالم الفن عمومًا والسينما خصوصًا، وكل حين يتطرَّق إلى الحياة العامة التى نعيشها بمحاسنها وسيئاتها اقتصاديًّا وسياسيًّا، بشجاعة ملحوظة. أما مقالى المزنوق فى خانة اليك -وصف مفهوم فى لعبة الطاولة- فيقع تحت عنوان دائم مخرج على الطريق ، يحدّد مساره ولا يسمح له بالانحراف عنه، فتجاربه الإخراجية تفيده أحيانًا، والحياتية تفرش طريقه، إلا أننى فى أثناء غطسى تحت الماء باحثًا عما أريد أن أقوله، كاتمًا أنفاسى بقدر المستطاع إلى أن أقفز إلى السطح بالفكرة، لاهثًا وراء كل فقاعة هواء أبتلعها، قبل أن أبدأ فى الكتابة كلمة بعد كلمة وجملة تلى الأخرى، إلى أن أصل إلى خط النهاية حسب المساحة وعدد الكلمات المتاحة. مقال اليوم ليس إلا مجرد تفسير حالة، أما مقال الغد فلا أستطيع البوح به إلا بعد الغطس من جديد مع نَفس طويل.