الشيخ يوسف القرضاوى المتمرغ فى النعيم القطرى من عشرات السنين والعائش مرتاحًا فى رحاب أكبر قاعدتين عسكريتين أمريكيتين فى المنطقة (قاعدتى «العيديد» و«السيلية») قال علنًا قبل أشهر قليلة، إن السفاح أبو بكر البغدادى قائد عصابة «داعش» كان عضوًا فى جماعة إخوان الشياطين، وكان عنده «ميل للرئاسة».. هكذا وصفه دون أن يقول كلمة واحدة تحمل معنى الهجاء والشتم فى هذا السفاح الذى يرتكب مع عصابته يوميا جرائم ضد الإنسانية يندى لها الجبين وتتعفف وتقرف، حتى الوحوش الضارية عن الإتيان بمثلها. مقطع الفيديو الذى سجل اعتراف الشيخ على زميله فى العصابة الإخوانية الأم، عندما تشاهده الآن ويقفز لذهنك مكانه (قطر) وسياقه، وكيف أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ومن خلفها طابور التابعين من نخب الحكم فى أوروبا، قدموا دعما سياسيا وإعلاميا لا محدودًا للعصابة الفاشية المذكورة وراهنوا (بخيابة وجهل وتهور) على صعودها للسلطة العليا فى أقطارنا العربية لكى تؤمن، انطلاقًا من مصر ولمدة خمسمئة عام على الأقل، مصالحهم غير المشروعة فى أمتنا وتغرقها فى التمزق والتأخر والخراب الشامل وتكرس بمشروعها الطائفى وجود الكيان الصهيونى وتهديه حجة يصعب أو يستحيل دحضها، ملخصها أن دولة دينية عنصرية أمر عادى وطبيعى فى منطقة غَرِقة فى أوحال الطائفية والقتل باسم الدين. عندما تستحضر كل هذا السياق وتضيف إليه أن تركيا أردوغان الإخوانى ، هى الآن معبر وملاذ آمن تمامًا لقادة وأعضاء العصابة الداعشية، سوف تستطيع أن تستشرف بوضوح آفاق تداعيات جريمة شارلى إبدو المروعة التى سقط فيها تقريبًا كل مجلس تحرير هذه الصحيفة الصغيرة.. إنها تداعيات سبق أن شاهد العالم مثيلًا لها، بعد أن استعمل العنصريون فى مؤسسات الحكم الغربية السلاح الخطير نفسه، أى جماعات الهوس الدينى ، ابتداء من سبعينيات القرن الماضى، وقت أن كان نشاط المخابرات المركزية الأمريكية على أشده فى شحن وتعبئة وتحريض الآلاف من شبابنا الأبرياء وإرسالهم إلى فيافى أفغانستان بذريعة محاربة الكفر والشيوعية هناك، ثم لما مرت السنين وعاد هؤلاء الشباب بعقائد مشوهة وأفكار ناسفة تعدى خطرها حدود بلادنا وعبر المحيط حتى وصل فى 11 سبتمبر 2001 إلى أبراج نيويورك ، يومها ذاق العنصريون المتهورون من الكأس المسمومة نفسها، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى اللعبة الإجرامية الخطرة عينها، ولعبوها فى العراق وسوريا وليبيا ومصر.. لكن مصر بشعبها ودولتها القوية استطاعت أن تنجو وتنتصر وتفلت من سوء المصير، بعدما دفعت، وما زالت تدفع أكلافًا باهظة. السؤال الآن: هل جريمة شارلى إبدو ستساعد بعض سكان قصور الحكم فى عواصم الغرب إلى الكف عن التهور والتوقف عن هذه اللعبة المجنونة وأن يستلهموا من التراث الإبداعى لبلادهم درسًا ثمينًا بليغًا من نوع ما قالته مثلا أسطورة بجماليون اليونانية القديمة؟! لست أعرف إجابة واضحة، لكننى أعرف أن الأسطورة تلك (استلهمها مبدعنا الراحل العظيم توفيق الحكيم فى مسرحية بهذا الاسم كتبها فى مطلع ستينيات القرن الماضى) تقوم على فكرة جوهرية، توسلت بها أيضًا أديبة بريطانية تدعى مارى شيلى فى روايتها ذائعة الصيت فرانكشتاين ، فأما الفكرة فى الأسطورة والرواية فتدور حول عواقب الإقدام على تخليق كائنات لا بد بالضرورة أن تكون مسخًا مشوهًا، لكن شرورها تصيب فى النهاية صانعها نفسه.. وفى الأسطورة اليونانية فإن نحاتًا (يدعى بجماليون) يفتنه تمثال امرأة جميلة كان قد صنعه بيديه، وفى لحظة تهور يطلب من الآلهة أن تنفخ الروح فى هذا التمثال، بحيث يصير امرأة حقيقية من لحم ودم، وإذ تلبى الآلهة طلبه من المرأة التى صنعها، فإن بجماليون يعود ويتمنى على الآلهة إعادتها جمادًا كما كانت بعدما يكتشف فساد خلقها وخيانتها له، فلما ترتد تمثالا فإنه يحطمه بغلّ وقسوة ويتحطم هو معه. أم فيكتور فرانكشتاين الباحث الطموح الذكى فى رواية مارى شيلى تفتنه اكتشافاته العلمية فى مجال البيولوجيا والطبيعة فيندفع محاولا تطبيقها عمليا وصنع كائن حى من المواد التى يعمل عليها فى مختبر الجامعة التى يدرس فيها، وفى اللحظة التى يظن فيها أن محاولته نجحت يتذكر أنه ارتكب خطأ فى تركيب المواد ويرى مخلوقه مسخًا عملاقًا وغاية فى القبح فيصيبه الرعب والندم ويهرب قبل أن يفيق المسخ، غير أن هذا الأخير يقوم من رقاده وينطلق فى شوارع المدينة، يعيث فيها فسادًا وتخريبًا وموتًا، يطال خالقه فرانكشتاين نفسه.