كان لويس عوض الذى تحل ذكرى ميلاده المئة فى هذه الأيام، فهو حسب التاريخ الرسمى ولد فى 5 يناير عام 1915، وحسب التاريخ الحقيقى الذى أورده عوض نفسه فى مذكراته «أوراق العمر» 21 ديسمبر 1914، لكن الجميع تعارف على التاريخ الأول، وتم اعتماده للاحتفال به وتذكره عبر السنوات الماضية. ومنذ أن عاد لويس عوض من بعثته إلى إنجلترا، وهو يثير قدرًا كبيرًا من الجدل والاختلاف والحوار، وحسبه البعض على اليسار المتطرف، لذلك ألقت السلطات القبض عليه ضمن صفوف اليسار الشيوعى عام 1959، وعند تم إدراك أنه ليس خطيرًا على الأمن العام، أو أنه ليس منظمًا فى حزب أو جماعة، أفرج عنه، وعاد إلى جريدته الأهرام ليكتب ويترأس القسم الثقافى فيها. والبعض حسبه على التيار الفرعونى المصرى القديم، بل إنه يشارك فى مخططات سياسية ضد العروبة ، للدرجة التى جعلته لا يعيد إصدار كتابه المسرح المصرى ، الذى أصدره عام 1955، ولم يضعه فى قائمة منشوراته إطلاقًا. البعض وضعه فى قائمة المستغربين، الذين يدعون إلى اعتناق مبادئ وأفكار الغرب، على حساب الوطنية والقومية، واتهمه آخرون بالجاسوسية الثقافية، وهى أخطر من الجاسوسية السياسية السطحية. وفى حقيقة الأمر، فإن لويس عوض الذى لم يتنازل عن أفكاره بسبب مثل هذه الحملات العنيفة عليه وعلى أفكاره، دفعت البعض ليوغل فى التعنت ضده، وهذا البعض يضم يمينًا ويسارًا وإسلاميين وماركسيين ولغويين وقوميين، وهذا الحشد الخليط الذى يضم محمود شاكر ورجاء النقاش وفاروق عبد القادر ومحمد جلال كشك وآخرين، يثبت أن لويس عوض كان مثيرًا إلى درجة كبيرة. ومنذ أن أصدر ديوانه بلوتلاند عام 1947، ودعا فيه إلى تحطيم عمود الشعر، وهو يتلقى الضربات من اليمين المحافظ، إلى اليسار المحافظ كذلك. ورغم ذلك فقد كانت كتابات لويس عوض تجد ترحيبًا شديدًا فى أوساط أخرى، بل إنها كانت مؤثرة إلى حد بعيد، ولو توفر أحد النقاد على أثر لويس عوض الشعرى والروائى والفكرى والتاريخى والنقدى على الأجيال التى تلته، سيكتشف كثيرًا من هذه الآثار، وأزعم أن ديوانه بلوتلاند ترك تأثيرًا مهولًا على أجمل وأعظم شعراء مصر، أقصد صلاح جاهين، ولا أعرف لماذا لم يعقد أحد النقاد هذه المقارنة التأثيرية بين سونيتات لويس عوض التى كتبها فى أربعينيات القرن الماضى، وبين رباعيات جاهين التى كتبها على مدى عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وتعالوا لنقرأ بعض ما كتبه عوض فى الأربعينيات لنتأمل هذا الأثر الكبير، يقول عوض فى عذاب صوفى : (لغز الحياة دا سكره الله نفخ من روحه فى طينه لسه بكره. الله محبة، قالوا: إزاى باحب واكره؟ هو النبيت مش صافى ولا القزازة عكرة؟). ثم يقول فى الأجل : (أوتار الفن طقّت واللحن لسه فكره حرام يا موت تاخدنى قبل ما اغنى بكره). وأعتقد أن مجال المقارنة، واكتشاف الصلات التأثيرية، سيكون حافلًا بالمعانى والأفكار والاكتشافات العديدة. ولذلك فلويس عوض كانت كتاباته كلها هذا الصدى المتنافر والمتناقض بين مؤيدين ومعتنقين لأفكاره، واعتباره زعيم المجددين، وبين مهاجمين ومحطمين لكل ما يأتى به، واعتباره زعيم المخربين والمفسدين للثقافة العربية والإسلامية. وعلى سبيل المثال، عندما صدرت مسرحيته الراهب أواخر عام 1961، وجدت فى طريقها هذه الأصداء المختلفة، كتب عنها الناقد الدكتور شكرى عياد فى العدد الصادر من جريدة المساء بتاريخ 6 يناير 1962 مقالا تحليليا طويلا وعميقا وإيجابيا تحت عناوين الراهب الحائر بين الأرض والسماء.. أبانوفر رمز لقوة الشعب ومارتا رمز لروحه.. البطل الذى استقاه المؤلف من مزاجه المصرى الرومانسى ، وبدأ عياد بتقريظ لافت، عندما تحدث عن مجهودات عوض النقدية والأكاديمية وفى الترجمة، والتى أهّلته ليخوض مثل هذا النوع من الكتابة الشائكة، وأجرى عياد مقارنة سريعة بين رواية عودة الروح لتوفيق الحكيم، وبين المسرحية، مع إيضاح الاختلاف بين النصين، ويكمن هذا الاختلاف فى أن الحكيم كان يستعيد روح مصر كما هو واضح فى العنوان، أما راهب عوض فتعبّر عن روح مصر فى حالة الكمون التى يظنها الجاهلون موتًا -بتعبير عياد-، ويستطرد عياد قائلا: أراد لويس عوض أن يقول إن الذى ضحّت به مصر فى تلك اللحظات الحالكة هو جسدها، أما روحها فبقيت حية، أو بعبارة أخرى إن مصر كانت تنعدم من التاريخ فى بعض الفترات، بوصفها قوة مادية، ولكنها تبقى بحالها أفكارًا وتقاليد، ولو احتجبت وراء جدران دير، أو انطوت بين صفحات كتاب، بل ولو قبعت فى عقول أبنائها وضمائرهم، لذلك فلا عجب إذا رأينا مصر بنفسها تضحى بالجسد لتستبقى الروح، تسلم المدنية لتستبقى الشعب، مصر البطلة لم تسلّم بالهزيمة قط، بل أحالت ما تعده الشعوب هزيمة إلى نصر مبين . ويستغرق عياد فى تحليله الاحتفالى بمسرحية الراهب، ليأتى على معظم شخصياتها وأحداثها، مولعًا باللغة الشعرية التى أكسبت النص حيوية ودفئًا، بينما كان فى الجهة الأخرى من انقضوا على العمل، هاجمين ممزقين، ومنهم الكاتب محمد جلال كشك، الذى كتب سلسلة كتابات للهجوم على اليساريين، بعد أن كان منهم، وخصّص دراسة هاجمة عن مسرحية الراهب ، تحت عنوان الراهب اللا منتى ، ناسيًا أو متجاهلا أنه يستخدم تعبير غالى شكرى الذى سبقه فى إطلاقه على أبطال روايات نجيب محفوظ، وهو لم يتعامل مع النص إلا من الزاوية السياسية، وهو كان يحرّض الجهات المسؤولة آنذاك على المسرحية وكاتبها، ويقدم ما يشبه البلاغ فى لويس عوض بأنه يريد هدم العروبة لحساب البعد المصرى ف المؤلف يريد أن يقول صراحة إنه يتحدث عن مصر المعاصرة، وإنه يثير قضية الحفاظ على اسم مصر فى المعركة الفكرية الدائرة فى العالم العربى حول الإقليمية والعروبة، وإن حكاية بيزنطة وروما ليست إلا الجسر الرمزى الذى يعبر عليه بفكرته ، ويوغل كشك فى البلاغ فيستخدم اسم رئيس الجمهورية آنذاك فيقول: وفى الشتاء القارص لعام الانفصال عندما كان الرئيس يتلقى ملايين الخطابات تطالب بالحفاظ على اسم الجمهورية العربية المتحدة ورايتها العربية.. أراد المؤلف أن تظهر العذراء على المسرح بثوب أخضر وفى جبينها هلال وثلاثة... . وهكذا يسترسل كشك ويمعن فى الإبلاغ الشائن، وهذا يدلّ على أن لويس عوض يحتاج إلى قراءات منصفة، ونتمنى أن يفعل المؤتمر الذى ستقيمه وزارة الثقافة بعد أيام لقراءة عوض قراءة منصفة وعادلة.