حكاية غريبة رواها لى أحد مدراء الأمن فى التليفزيون المصرى. ففى ليلة 28 يناير، وهى واحدة من أسوأ ليالى الثورة، عندما انسحبت قوات الشرطة، وتسيد البلطجية التابعون لهم الشوارع، كان مبنى التليفزيون الضخم عاريا بلا حماية، وأصبح الطريق إلى استديوهات الهواء مفتوحا، يمكن لأى مجموعة من ثوار التحرير أن تستولى عليه وتعلن للشعب فى مصر، وللعالم كله، ما تريد أن تقوله، ولم يكن هذا الأمر كفيلا بتعجيل انتصار الثورة فقط، ولكنه كان سيقضى على الصفقات المشبوهة التى كانت تتم فى القصر الجمهورى فى ذلك الوقت. ولكن بدلا من أن يجىء الثوار جاء البلطجية، ولم يكن هدفهم الظهور على الهواء، ولكن نهب الجمعية الاستهلاكية التابعة للعاملين التى كانت ممتلئة بالتليفزيونات والثلاجات والغسالات وغيرها من الأجهزة الكهربائية. ومن المؤكد أن هذه الفرصة النادرة قد أفلتت من ثوار التحرير، ففى اليوم التالى جاءت قوات من الحرس الجمهورى وحاصرت المبنى بالدبابات، وهى نفس القوات التى وقفت فى صف واحد لتسهل دخول الجمال والخيول إلى ميدان التحرير. أخطاء كثيرة غير هذه وقعت فيها ثورة 25 يناير، وأبرزها أنها لم تستطع أن تستولى على السلطة. لم يكن هذا فى نيتها رغم أنه كان فى قدرتها، مثل مناسبة الاستيلاء على مبنى التليفزيون، وكان يمكن لهذا الأمر أن يربك حسابات كل القوى على الأقل، ولكن الثورة كانت تفتقد القيادة، وبالتالى افتقدت الرؤية للمستقبل وتوقفت عند هدف إسقاط النظام. وحتى نعطى للثورة عذرها فهى لم تكن تظن أن النظام بهذه الهشاشة، تكفيه طرقة واحدة حتى ينهار، فنظام مبارك كان مرتكزا على مجموعة من الأكاذيب المتداخلة، عندما انتزعت منها أكذوبة الرئيس المسيطر المتحكم فى زمام الأمور انهارت بقية الأكاذيب الأخرى، ولكن الثوار لم يعلموا أن انهيار السلطة القديمة هو فقط مجرد البداية، ولم يكن عليهم أن يتركوا الميدان، ولا أن يتركوا أمر الثورة لبعض من محترفى الثرثرة فى البرامج الحوارية التى لا هدف لها غير ملء ساعات التليفزيون، وكانت النتيجة أن السلطة التى تأخذ بزمام الأمور فى مصر تكونت بعيدا عن الميدان الذى غيّر وجه مصر، وبدا أن افتقاد الثورة قيادتها هو مقتلها لأنها سلمت السلطة لأناس لم يكن لهم نصيب فى صنعها. وتعطينا كوميونة باريس درسا قاسيا عن الثورة عندما تفتقد قيادتها وبالتالى تفقد رؤيتها، والكميونة هى أشهر ثورة قام بها عمال باريس فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر عام 1870، فالثورة الصناعية كانت حدثا عظيما على المستوى التكنولوجى، قاسيا على المستوى الإنسانى، كانت الطبقة العمالية بلا أى حقوق تقريبا، ولم يتنازل أرباب الصناعة فى ذلك الوقت عن أى من مكاسبهم لمعالجة وضع المعيشة المتدنى لآلاف العمال، وزاد الأمر سوءا نشوب الحرب بين فرنسا التى كان يقودها نابليون الثالث، وبروسيا تلك المقاطعة الألمانية القوية التى كان يقودها بسمارك، المستشار الحديدى. وكعادة الحروب الفرنسية الألمانية انتهت سريعا بهزيمة فرنسا، وتقدمت القوات الألمانية حتى فرضت حصارا قاسيا على باريس، وزاد هذا من قسوة الظروف على طبقة العمال وعزت الأقوات ومات الأطفال من شدة الجوع، وزادت حدة التوتر حين أُرغمت الحكومة الفرنسية على توقيع اتفاقية للصلح تقضى بدخول القوات الألمانية إلى باريس للاحتفال بانتصارها، ولكن عمال باريس والطبقة الوسطى من الأطباء والمهندسين والمفكرين رفضوا هذا الأمر، وألفوا بينهم فرقا من الحرس الوطنى من أجل حماية باريس ومنع دخول الألمان إليها، واضطرت الحكومة لتوزيع السلاح عليهم، وكان امتلاك العمال السلاح، تحولا دراميا فى أمور هذه الطبقة المنسحقة، أصبح لها صوت مسموع وموقف محدد، يمكنها أن تدافع عنه، وهكذا وقفت فى وجه الحكومة المهزومة وطالبت بإقالتها، وعندما حاولت الحكومة سحب السلاح مرة أخرى فشلت فى ذلك وأصبحت فى الموقف الأضعف، ولم يكن أمامها من بد سوى الرحيل بعيدا. ومثل رحيل الرئيس المخلوع إلى شرم الشيخ، أخذت الحكومة الفرنسية بقايا جيشها وعتادها إلى فرساى. وعلى الرغم من خلو باريس من كل مظاهر القوة فإن العمال ظلوا مترددين فى تسلم السلطة، غرق مثقفوهم فى الثرثرة حول الديمقراطية والطريقة المثلى للحكم كما نشهد اليوم على شاشات التليفزيون، وحتى عندما تكونت حكومة الكوميونة أخيرا لم تتحل بالنظرة الواقعية، لم تر الخطر الكامن المتحفز فى فرساى، لم تفكر فى الهجوم عليها لتصفية بقايا النظام السابق نهائيا، أصابهم التردد والنظرة المثالية للأمور، لن نهاجمهم ما داموا لا يهاجموننا، ولكن حكومة الكوميونة لم تستمر سوى شهرين فقط من مارس إلى مايو 1981، وخلال هذه الفترة القصيرة صنعت كثيرا، قامت بفصل الدولة عن سلطة الكنيسة، وغيرت علم فرنسا الثلاثى الألوان إلى اللون الأحمر، وهو اللون الذى استلهمته كل النظم الاشتراكية التى قامت بعد ذلك، ووضعت حدا أدنى للأجور التى كانت متدنية، وضعت أجرا إضافيا للعمل ليلا وأقرت حق العمال فى جزء من أرباح مصانعهم، ووضعت معاشا للعائلات الذين فقدوا من يعيلهم فى الحصار، وأعادوا إلى النساء الفقيرات حليهم وإلى العمال الحرفيين أدواتهم التى اضطروا جميعا إلى رهنها فى أثناء الحصار. المرأة الباريسية كان لها أيضا دور مميز فى أحداث الكوميونة، وقد تألف عديد من الجمعيات النسائية التى نادت بمنح المرأة حق طلب الطلاق، والمطالبة بأجر للمرأة مساو للرجل، ومنحها المستوى نفسه من التعليم بما فى ذلك التعليم الفنى، وعدم التفرقة بين الأولاد غير الشرعيين، وإلغاء بيوت البغاء لأن فيها إهانة لجسد المرأة وتحويلها إلى سلعة... باختصار كانت الكوميونة حلما بشريا بالعدل على الأرض، ولكنه للأسف كان حلما قصير الأجل، فهى لم تشأ الهجوم على فرساى، ولكن فرساى كانت تستعد للهجوم، نظمت جيشها وشرطتها، وساعدتهم بروسيا، عدو الأمس، فأفرجت عن كل الأسرى الفرنسيين الذين كانوا فى قبضتها، وأمدتهم بمزيد من الأسلحة والعتاد لتزيد من قوة الجيش الفرنسى وتدعمه فى هجومه الكاسح على باريس، وكان خطأ الثوار أنهم بدلا من أن يضعوا خطة عامة للدفاع عن المدينة أخذ كل حى يدافع بمفرده حتى سقطوا جميعا، وأُعدم جميع القادة رميا بالرصاص عند حائط شهير بالقرب من مقابر باريس سُمّى فيما بعد بحائط الكوميونة، وقبض على كل من كان فى حوزته سلاح أو من حامت حوله الشكوك فى تعاطفه مع الكوميونة، بلغ عدد المقبوض عليهم 12 ألفا من المتهمين، وهو نفس الرقم الذى قبضت عليه الشرطة العسكرية فى مصر هذه الأيام، وهى ليست مصادفة تاريخية، وقد وجد نحو 11 ألفا منهم مدانين وتم إعدام نحو 40 فردا منهم، ورغم ذلك فلم تضع الثورة هباء، فقد استفاد العمال فى كل أنحاء الأرض من قوانين الضمان الاجتماعى التى وضعتها، وتجنبت الثورة الشيوعية التى قامت فى روسيا فيما بعد عديدا من الأخطاء المروعة للكوميونة، فقد بلورت قياداتها وأهدافها منذ البداية، ولم تترك الفرصة لأعدائها حتى يهاجموها بل بادرتهم بالهجوم، ولكن كوميونة باريس تبقى درسا قاسيا لكل ثورة لا تعرف هدفها ولا تحدد أعداءها وتترك الفرصة للآخرين حتى يقضوا عليها، وهو الأمر الذى لا نتمناه لثورتنا.