هذه المجموعة القصصية الصادرة عن دار ميريت من أفضل المجموعات التى قرأتها فى 2014.. «النوم عند قدمى الجبل» للقاص والروائى السودانى حمّور زيادة، عمل مدهش بشخوصه وأفكاره، بسخريته اللامعة، وبتأمله المدهش للموت والحياة، للعقل والجنون، وللهوس بالسلطة، حمّور زيادة الذى أذهلتنى روايته «شوق الدرويش»، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ التى تقدمها الجامعة الأمريكية، يؤكد أنه أيضا من أبرز أصوات القصة القصيرة فى العالم العربى. القصة القصيرة فى بنائها الكلاسيكى فن صعب، ذلك لأنها تتعامل مع لحظة إنسانية واحدة، تعتصرها حتى النهاية، قد يكون لديك عشرات الأشخاص والتفاصيل، ولكن القصة القصيرة تجمعها فى بؤرة لحظة واحدة، إنها أشبه ما تكون بتلك العدسة التى تجمع خيوط الضوء، فتصنع من النور نارا، قوة هائلة تجعلنا نتأمل أنفسنا والعالم بصورة أفضل وأعمق، فى قصة حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها يتأمل حمّور زيادة عبر سرد سلس ذلك الإنسان المعلق بين السماء والأرض، والمتأرجح بين الأرضى والمقدس، صاحب الكرامات وابن الغريزة، طرفان للصراع: شيخان من أهل الخطوة، بينهما ما صنع الحداد، حُسنة الجميلة تترك أحدهما، لتتزوج بالآخر، بشرط أن يسترد الشيخ الثانى لها حقوقها من غريمه، تبدو حُسنة، كما رسمها حمّور ببراعة، وكأنها الدنيا نفسها، التى قد تتركها، فلا تتركك أبدا، الإنسان الذى يمشى على الماء، هو الذى يمكن أن يبيع الفتوى ليصبح أثيرا لدى السلطان، الحكاية شيقة للغاية، ولكن لا يفلت من مؤلفها خيطها المحورى، ندور ونلف بين سمو الروح وفكرة الانتقام التى عالجها حمّور أيضا فى روايته شوق الدرويش ، سؤال القصة هو هل كانت حُسنة تستحق الحرب من أجلها؟ هل كان الأمر يستأهل أن يحترق إنسان وأن تموت المبادئ؟ نكتشف فى النهاية أن هذه الحرب قامت من أجل استرداد دينار واحد. فى قصة حلّة أزرق حكاية تبدو بسيطة، لكنها ليست كذلك: يتسلل بعض البدو إلى قرية مستقرة، مجموعة من الحفاة العراة، يشعرون بالاغتراب عن المكان والبشر والطعام، يعملون كيفما اتفق، ينامون فى العراء، ثم يصنعون عششا، تمر الأعوام، يتكاثر البدو، يُحضرون أقاربهم، يبنون بيوتا من الطين، يشاركون أهل القرية فى الأرض وفى النخيل، يسيطرون على القرية، لم يعد باقيا سوى أن يغيروا اسمها، ينسبونها إليهم، الخطوة القادمة، التى يرفض أهل القرية تصديقها، أن هؤلاء القادمين سيطلبون بناتهم للزواج، تحلل القصة آليات الغزو الناعم، الغزو من العمق، وصولا إلى التمكين، كما تكشف عن سوء التقدير الذى يتيح هذا التمكين، فى المعنى الأجمل والأعمق، فإن الصحراء تغزو القرية، الأصفر يكتسح الأخضر، هناك إشارات واضحة إلى اختلاف ثقافى واضح، الجراد الصحراوى يغزو النيل. لكل عام خريف حكاية عن العقل والجنون، مجنون القرية لم يكن كذلك، كان شابا رائعا سافر إلى العراق، وعاد مضطربا، أخذ أخوه أموال الغربة وتزوج بها، المجنون يتربص بجميلة القرية نعيمة، يغازلها بصوت عالٍ: أنا بحييك، حبيتينى حبيتينى.. ما حبيتينى على كيفك ، نعيمة تضطرب، ينتقل إليها الجنون، شعرة واحدة تفصل الإنسان عن عالم آخر غريب، تمر الفصول، وما زال النيل يجرى، الإنسان ضعيف وطموح وعاشق، ولا يمتلك إلا العقل، دونه يصبح لا شىء. فى قصة البهو وما ملك الشعب صورة خيالية ساخرة تسقط على الواقع لعبة السلطة والسلطان فى العالم العربى، تتعدد ألقاب التفخيم: ملك، رئيس، سلطان، زعيم، أما الخلاف التافه فهو عن تسمية بهو فى قصر منيف، الشعب لا وجود له إلا كعنوان على كل شىء: قصر الرئاسة هو قصر الشعب، البرلمان هو مجلس الشعب، مجلس الوزراء هو المجلس الشعبى للوزراء، صور الزعيم نفسها لا يظهر فيها إلا وهو وسط الشعب، الخلاف على تسمية البهو، ونسبته إلى الشعب، مع أن الشعب خارج الحسابات، دولة من ورق ومن أسماء. فى قصة رأيت لحظة حميمة، رجل وامرأة، ولكن القاص يمزج الحلم بالواقع، يدخل إلى لا وعى اللحظة، وفى النوم بين قدمى الجبل تعود فكرة الموت والحياة، والروح والجسد، ذلك الطفل تنبؤوا له أنه سيموت فى سن العشرين، أصبحت القرية كلها تعرف أنه سيموت فى العشرين، تتغير حياته بمعرفة ميعاد موته، لم يتوقف أحد ليناقش مدى صدق النبوءة، ذلك أن المقدس يفترض تسليما كاملا، يكبر الطفل، يصبح شابا عابدا لا يعرف طريق السيئات، الآن عليه فى يوم الأخير قبل الوصول إلى سن العشرين أن يختبر اللذة، أن يذهب إلى الله بذنب وحيد، يتأمل النص البديع معنى الإثم والبراءة، بل معنى الحياة نفسها: هل الحياة مجرد أيام نعيشها أم أنها هويتنا كبشر نخطئ ونصيب؟ الحياة ليست أن تكون على الهامش، العمر كله أحيانا قد يكون لحظة، يختبر المحكوم عليه بالموت لحظة اختيار رائعة، بل لعله يختار بعدها أن يموت. عندما هاجرت الداية تحكى عن اختفاء الداية من القرية، تركتها إلى الخرطوم، لا يعنى هذا الحدث شيئا للناس، ولكن زيادة وفيات المواليد، واضطراب حياة الأزواج، كل ذلك يعيد ترتيب الأوراق، الحكومة ترفض أن تبعث طبيبا لقرية هامشية، لا مفر من البحث عن الداية، الهامش يصبح متنا من جديد، بل إن الداية تبدو وكأنها الأمل الذى لا حياة دونه، الأشياء المهمة قد لا نرى أهميتها من فرط تعودنا عليها، فإذا غابت، تحول العادى إلى استثنائى، بارع حقا حمّور زيادة فى التقاط شخوصه ولحظاته، هذا قاص يعرف أهله وناسه، ويحاول أن يتأملهم فى إطار أفكار كبرى تشغله وتؤرقه.