وأنت تقرأ كلمة النهاية وتودّع الشريط السينمائى تشعر فى نفس اللحظة بأنك تصالح الحياة، أغلب أبطاله حتى المذنبين منهم، أقصد ما تعارَف المجتمع على أن يدينهم أخلاقيا أو دينيا، هم فى الحقيقة لم يختاروا الطريق، كُتب عليهم الطريق. فى فيلمه قدرات غير عادية يقترب داوود عبد السيد أو بالأحرى يُقدّم لنا تنويعة بمن دأبنا أن نصفه بالمختلف، رغم أن الوجه الآخر لتلك الصورة هو أنك بالنسبة إلى المختلف أنت المختلف، أحد محاور سينما داوود هم هؤلاء، المتعلثم مثلا مثل بطل فيلمه قبل الأخير رسائل البحر ، وهذه المرة المختلف هو صاحب القدرات غير المحدودة. إذا كنت تريد أن تعثر على إجابات قاطعة لأى أسئلة يطرحها الفيلم، نصيحة لا تفعل ذلك، فلن تجد أبدا تلك الإجابات، ثم إنك أيضا تخاصم روح الفيلم، فهو لا يريد أن يثبت أو ينكر شيئًا، لكن تأمّل الشريط وأعد مرة أخرى تلك النهاية لتجد وميضًا يرشدك يوحى أكثر مما يصرّح، فقط تأكد أن البطلة نجلاء بدر التى رأيتها فى مشهد ترتدى النقاب، هى نفسها التى ستراها فى آخر بالمايوه، وليست صدفة أن اسمها حياة ، الفيلم لا يناقش تلك القضية دينيا لكن ما يعنيه هو الإنسان! النهايات فى أفلام داوود تفتح ذهنك ومشاعرك لإعادة قراءة الفيلم، هل تتذكّرون نهاية فيلمه الأشهر والأكثر جماهيرية الكيت كات ؟ الشيخ حسنى وابنه يوسف يغرقان فى النيل بسبب تهوّر الشيخ الضرير، وإصراره على قيادة الموتوسيكل، لكنهما يصعدان ويبادلان إشراقة الصباح بضحكات تملأ الكون وتتحدّى العجز، هل تتذكَّر نهاية رسائل البحر والبطل والبطلة يتشبّثان بمركب فى البحر بعد أن ضاقت بهما الأرض وحاصرتهما عيون واتهامات البشر؟ سوف تشعر بالأمان على بطليك، تحميهما موجات البحر، وتباركهما رعاية السماء، وهكذا جاءت النهاية فى فيلم قدرات غير عادية ، والذى يحمل رقم 9 فى المشوار الروائى لمخرجنا الكبير، عودة إلى المكان الدافئ الذى شعروا وشعرت أنت فيه بالأمان وهو البنسيون الذى تمتلكه بطلة الفيلم نجلاء بدر فى حى أبو قير. البنسيون هو نقطة الانطلاق فى البداية، ونعود إليه مع نفس الزبائن، بل زادهم واحد، الذى عاد بعد أن تزوّج فتاة ليل كان يصوّر عنها فيلما، وأنجب منها طفلا وينتظر الثانى. المخرج كعادته لا يدين أحدًا، تجهد نفسك كثيرًا لو حاولت أن تعرف مَن هو الشرير فى هذا الفيلم أو غيره من أفلام داوود، فهو يدعوك إلى أن تتسامح مع الجميع. الدكتور النفسى فى الفيلم، خالد أبو النجا، لم يستغرق السيناريو كثيرًا من الزمن حتى يمنحه إجازة من المستشفى، ليتفرّغ فى بحثه عن القدرات غير العادية للبشر، تكتشف أننا جميعا فى لحظات نملك، وفى أخرى لا نملك تلك القدرات الاستثنائية، الأجواء التى ينثرها داوود فى الفيلم، مثل السيرك والموالد وحفلات الذِكر، تملأ الكادر، كما أن الدولة دائما حاضرة بقوة، هناك طرف ثالث أعلى حتى من السلطة المباشرة، إنها سلطة فوق السلطة سبق لداوود وأن أشار إليها فى فيلمه أرض الخوف ، إنها الأجهزة التحتية التى تخطط لكل شىء وترسم معالم الطريق كما يحلو لها، وفق خطة محكمة. فى فيلمه مواطن ومخبر وحرامى ترى محاولة للزواج بين السلطة والشعب مرة، وبين الحرامى والشعب مرة، وهو ما تلمحه أيضا فى قدرات غير عادية ، لكنه لا يدوم طويلًا، إلا أنه فى الوقت نفسه لا يعنى غياب تلك القوة المسيطرة. البنسيون كان هو الملعب الذى شاهدنا فيه ميرامار نجيب محفوظ الذى أحاله المخرج كمال الشيخ إلى فيلم لا ينسى، ظل البنسيون حاضرًا فى الفيلم المحفوظى حتى المشهد الأخير نخرج منه لنعود إليه، هذه المرة كان بنسيون داوود بشخصياته المتعددة والمتنافرة أيضا له حضوره فى الثلث الأول، لكنها ظلت شخصيات على السطح لها بُعد واحد ولا نقترب من عمقها، مطرب أوبرالى، حسن كامى، على المقابل أقصد الوجه الآخر للصورة مطرب تواشيح دينية محمود الجندى، وهناك مخرج إيطالى يرصد بالكاميرا فتيات الليل ويصطاد الأسماك العملاقة، وهذا فنان تشكيلى، أحمد كمال، وذاك حبيب الله ، إيهاب أيوب، ابن الجنوب المسؤول عن رعاية البنسيون. شخصيات مبتسرة لم تكتمل ولم يعد إليها داوود إلا مع مشهد النهاية. الفكرة الأساسية التى تسيطر عليه تأمل الإنسان بكل تفاصيله ما هو معلن وما هو مسكوت عنه، هناك دائما تناقض يصل إلى أقصى مداه، النقاب يواجه المايوه فى الحقيقة لم يكن الأمر كذلك هذا فقط على السطح، لكن ما تحت النقاب والمايوه هو الإنسان، وهذا هو تحديدا ما عبّرت عنه الشخصية التى أدتها نجلاء بدر فى أول بطولة حقيقية لها. داوود يُطلّ على المجتمع بعيون أبطاله، وكانت فى الحقيقة النظرة الأعمق هى تلك التى تملكها البطلة وأحسن المخرج اختيارها وتوجيهها الطفلة مريم تامر، نراها مرة بتلك النظرة التى تحمل كل البراءة والبكارة والدهشة، وأخرى ونراها أخرى مثقلة بالإرادة والتحدى وخبرة الأيام. يتشككون فى جينات الطفلة، هل هى ابنة الشيطان أم ابنة السفاح، لكننا ندرك أنها ابنة الإنسان، تلك الازدواجية فى البنية التى تجعل الإنسان يحمل تناقضًا جينيًّا، وهكذا تزاحمت الأفكار على الشريط، وأصبح لزاما على مخرجنا أن يخرج من تلك التعقيدات الفكرية بإجابات حوارية. كان داوود يريد أن يرسل الطلقة الفكرية، لكنه يخشى ربما مِن أن لا تصل فيقدّم إجابة مباشرة عن موقف كانت لدى جمهوره إجابة موحية وليست قاطعة له فى الحقيقة أثقلت تلك الإجابات الفيلم فى نصفه الثانى. ويبقى هذا الحضور اللافت من ممثليه: خالد أبو النجا الذى أصبح يشكّل قوة جذب ونضوج فى فن الأداء، ونجلاء بدر أراها ممثلة بحق وحقيق، كأنها لم تمثّل من قبل، وعباس أبو الحسن شخصية درامية من الممكن أن تبدو صاخبة لكنه أدّاها باقتدار، موسيقى راجح وديكور وتفاصيل مهندس الديكور أنسى أبو سيف المشرف الفنى، ومدير تصوير مروان صابر اسم جديد وموهبة تنبّئ بكثير وتبقى تلك الطفلة مريم تامر.. نعم المخرج يوجه الطفلة ويحافظ على تلقائيتها، لكنها تملك حضورًا غير عادى وقدرات غير محدودة فى التعبير، ولو كان الأمر بيدى لمنحتها جائزة أفضل ممثلة. إنه عالَم داوود عبد السيد بمفرداته ولمحاته وومضاته، نعم كان هناك إسهاب هذه المرة فى الحوار والتعليق، لكن ظلّ داوود يمتلك سينماه الخاصة.