لو كتبت على «جوجل» اسم «عبد الفتاح الجمل» لن تجد سوى معلومات قليلة لا تُسمن ولا تُغنى من جوع، مع أن صاحب هذا الاسم الراحل من أبرز الشخصيات التى لعبت دورا أساسيا فى الحياة الثقافية والأدبية، بل إنه لا يوجد تقريبا اسم معروف ينتمى إلى جيل الستينيات لا يدين بفضل الاكتشاف لهذا الرجل، الذى جعل من الصفحة الأدبية فى جريدة «المساء» منارة للثقافة الجديدة، وللأصوات الواعدة التى تصدّرت الساحة بعد سنوات، فى مجالات النقد والأدب والفن. كلما التقيت ناقدا أو شاعرا أو روائيا كبيرا تأتى على الفور سيرة عبد الفتاح الجمل، منذ أيام التقيت الناقد والباحث السينمائى المرموق، محمد عبد الفتاح، فجاءت سيرة الجمل كالمعتاد، قال لى: إن هذا الرجل كان يؤجل مقاله فى الصفحة لينشر بدلا منه مقالا لكاتب شاب موهوب ، جيل الستينيات استفاد من هذا الكاتب صانع النجوم، ومكتشف المواهب، كانت لديه عينٌ فاحصة، ونظرةٌ تنبؤية، ولم تكن لديه أى مشكلة فى أن ينشر لكاتب واعد مقالا أو دراسة على صفحة كاملة، كتب هو رواية واحدة بعنوان محب ، ولكن ما كتبه جيل الشباب يضاف إلى رصيد عبد الفتاح الجمل، الذى لا نجد له صورة شخصية واحدة على الإنترنت. تذكّرت حديثا مماثلا عن الجمل سمعته من أصدقاء أعزاء، مثل الناقد السينمائى الكبير أمير العمرى، والمخرج والناقد والأكاديمى المعتبر الدكتور محمد كامل القلوبى، خصّص العمرى فصلا للحديث عن الجمل فى كتابه عصر السينما ، هناك إجماع ممن كتبوا فى نهاية الستينيات أو فى السبعينيات على الدور التنويرى لهذه الشخصية، أول مقال نشره الناقد السينمائى سامى السلامونى كان فى الصفحة التى يشرف عليها الجمل، والتى كانت أقرب إلى المجلة الثقافية المستقلة، هذا الدور مهم للغاية، وأظنّه مفتقدا إلى حد كبير فى صحف هذه الأيام، كانت رعاية الجمل تتجاوز النشر وإبراز نتاج الموهبة وجهدها، كان يقوم برعاية الكتّاب والأدباء، لا يبخل بالنصيحة أو الكتب، يتحاور معهم، ويمنحهم خبرته الحياتية والأدبية، ربما يستدعى ذلك دورا مماثلا كان يقوم به الراحل الكبير كامل الشناوى، الذى أسهم فى إنضاج موهبة نجوم كثيرين، مثل عبد الحليم حافظ وبليغ حمدى، ليس قليلا أبدا هذا الدور، وليس قليلا حصاد هذه الرعاية الخلاّقة، والتى حفظها كثيرون، سواء للشناوى أو للجمل. أشعر بالأسف لأن الجمل لا يذكره إلا مَن عرفوه فقط، أتمنى أن يُطلق اسمه على قصر للثقافة أو على قاعة من قاعات المجلس الأعلى للثقافة، وأن تخصّص جائزة باسمه فى الأدب أو النقد، أو أن يُطلق اسمه على جائزة موجودة بالفعل، وأن تجمّع كل مقالاته وكتاباته فى مجلد واحد ضخم يصل إلى الناس، من حق الأجيال الجديدة أن تقرأ لهذا المثقف الكبير، وأن تتفاعل مع أفكاره ومع أفكار عصره. نقابة الصحفيين أيضا لا بد أن تكرّم اسم الجمل، وأن تكون لها جائزتها التى تحمل اسمه، بل إن لدىّ طموحا أن تقوم دار التحرير بإصدار كتاب تذكارى، يتضمّن مجموعة منتقاة مما نشرته صفحة المساء الأدبية، وقت إشراف الجمل عليها، ربما تصلح هذه الصفحة أيضا لتكون موضوعا لدراسة أكاديمية معتبرة، لا أشك فى أنها ستقدّم نموذجا مهما عن دور الصفحات الثقافية المهم والمؤثر فى تجديد دماء الحياة الفنية والأدبية. لا ينبغى أن نتذكّر الجمل فى المناسبات فقط، أرى أن تكريمه الدائم هو أن يرتبط اسمه بسلسلة إصدارات شهرية نكتشف من خلالها عشرات الكتاب والنقاد من القاهرة ومن الأقاليم، الجمل لم يكن مجرد شخص مستنير لكنه كان دورا ورسالة، لا بد أن تستمر وتتواصل، لا يحتاج الأمر فى رأيى إلا إلى رغبة وإرادة فى أن نستحضر تجربة الجمل وآخرين من الجنود المجهولين، لنضرب عصفورين بحجر واحد: نكرّم هؤلاء الكبار بعد غيابهم بالجسد، ونبعث تجربتهم الفريدة فى شكل معاصر، وأعتقد أن تلاميذ الجمل وأصدقاءه لن يبخلوا بجهدهم فى أن تخرج تلك الأفكار إلى حيز التنفيذ، وبدعم ومباركة وزارة الثقافة ونقابة الصحفيين. الجمل ودوره يستحقان، والجيل الذى اكتشفه الجمل عليه أن يقوم بنفس المهمة تجاه أجيال شابة وموهوبة، تتلمّس الطريق، وتريد مَن يضىء لها سبيل الغد، هناك مواهب استثنائية ألتقيها فى كل مكان، بعضهم يتخبّط طويلا قبل أن يعثر على صوته الخاص، وبعضهم يتعجّل النشر، فتخرج تجربته مسطّحة أو مبتورة، كثيرون لا يعرفون حجم قدراتهم أو إمكانياتهم، ذلك لأننا افتقدنا إلى حد كبير مَن يقومون بدور عبد الفتاح الجمل، وآخرين من رعاة المواهب. حضرتُ منذ فترة مؤتمرا للأدباء الشبان فى ساقية الصاوى، قابلت شبابا يعشق الكتابة، القصة والرواية والشعر، لكنهم يبحثون عن تلك الحلقة المفقودة التى تُنضج التجربة وتصقلها، ليست المسألة فى النشر، الذى أصبحت له قنوات عديدة على الأوراق، أو فى المدوّنات الإلكترونية، الأهم فى رأيى أن يدرك الكاتب مستوى ما يكتب، أن يعرف الشوط الذى وصل إليه فى إجادة فنه. وإذ أدعو إلى تكريم واستحضار تجربة الغائب/ الحاضر عبد الفتاح الجمل، فإننى أعتقد أننا نقدم إليه الشكر من أجيال أخرى لم تره ولم تعرفه، بل لعلنا نحسن إلى أنفسنا بالأساس، إذ نعتبر ونقدّر مَن يستحق الاعتبار والتقدير، بدلا من أن نتباكى كالعاجزين واليائسين، عن زمن غابت فيه القيمة، وافتقدنا فيه البوصلة والطريق.