الأخ العبقرى الذى «افتكس»، بالليل والدنيا ضلمة، قانون الانتخابات التشريعية الحالى وصممه على نحو شيطانى فى عشوائيته وعشوائى فى شيطانيته، فجاء تحفة غبية نادرة لن تجد مثيلا لها فى كل بلاد الدنيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. هذا الأخ فعل فعلته ثم لم يلبس ثياب الواعظين وإنما ارتدى سمات اللهو الخفى شخصيا، إذ ما إن صنع قانونه وغسل يديه من وسخه قبل أن يلقيه كالبلوى السوداء فى سكتنا التى لم تكن سالكة أصلا، حتى تبخر واختفى تماما من المنطقة، فلم نره ولم ينقل عنه أحد ولو كلمة أو جملة واحدة مفيدة يشرح لنا فيها أسبابه وغرض سيادته الشريف من اختراع هذا النظام الانتخابى العجيب الذى أخذ من نظام القوائم النسبية ونظام الدوائر الفردية نصف كل منهما وضربهما معا ضربا مبرحا وشديدا فى الخلاط. وفى ظل الغياب التام والصمت الثقيل اللذين لاذ بهما الأستاذ اللهو الخفى «مفتكس» هذا الخليط الانتخابى السام، فإن كثيرين اضطروا للاجتهاد ومحاولة تخمين العلة (بمعنى السبب لا المرض) والهدف القاعد وراء التمسك بعناد التيوس (جمع تيس) والإصرار على تجاهل المطلب الوحيد الذى اجتمع عليه كل الموجودين فوق المسرح السياسى الحالى، من أقصى اليمين الظلامى «القندهارى» إلى أقصى اليسار الطفولى «العيالى»، ألا وهو البدء فورا فى مسيرة تطوير المنافسات الانتخابية فى مجتمعنا ونقلها تدريجيا من دائرة تأثير سطوة المال وتحكم العصبيات العائلية والجهوية إلى فضاء التنافس بالشعارات والأفكار والبرامج السياسية، وذلك عن طريق استبدال نظام القوائم النسبية بالنظام الفردى القديم. غير أن اللهو الخفى يبدو أنه استمع باهتمام لكل هذه المطالبات الجماعية الموحدة ثم هز رأسه ودخل كهفه المظلم وخرج منه علينا بخلطته العجيبة التى حافظت على سوءات النظام القديم وزادتها طينا على طين وأضافت سيئات وتشوهات أخرى ناجمة عن عملية بتر وتقطيع نظام القائمة النسبية و«تشفيته» من بعض سماته الأساسية، وأهمها أنه لا يقيد ولا يقصر حق تشكيل القوائم الانتخابية على الأحزاب فقط (كما اشترط القانون الشيطانى) وإنما يمنح هذا الحق أيضا للمستقلين. وأعود إلى الاجتهادات المختلفة فى تفسير الإصرار «التتيسى» على اختراع نظام انتخابى بزراميط و«فنشكونى» جدا على هذا النحو، فهناك من يقول إن العلة والهدف من وراء ذلك هو محاولة إعادة إنتاج حكم الأستاذ المخلوع أفندى وتمكين فلوله ولصوصه من تسلق مواسير العملية الانتخابية بالمال الوفير الحرام، ومن ثم العودة لاحتلال البرلمان واغتصاب سلطة التشريع من جديد، وكأنه لا شعب قام وثار ثورة عارمة، ولا شهداء سقطوا، ولا شباب ضحى، ولا حاجة حصلت خالص أبدا ألبتة. لكن مجتهدين آخرين ربما يرون أن هذا النظام «الفنشكونى» هو هدية مزدوجة، شق منها سيذهب فعلا لفلول النشالين القدامى، بينما سيذهب الباقى للظلاميين الذين استغلوا الثورة وهجموا علينا من كهوف «تورا بورا» وهم مسلحون (كأشقائهم الفلول) بثروات وأموال طائلة، فضلا عن تنظيمات عصاباتية قوية تلعب صباح مساء على مشاعر وعقول بسطاء الناس باسم الدين الحنيف، مما يجعلها جاهزة ومؤهلة لدخول حلبة السباق الانتخابى المعقد الجديد، وهى متقدمة بألف خطوة عن سائر القوى السياسية الحقيقية فى المجتمع. أما العبد لله فلديه رؤية وتفسير مختلفان، فأنا أخالف أولئك القائلين إن اللهو الخفى متعمد ويقصد تسهيل عودة حرامية الغسيل القدامى إلى السلطة التشريعية من شباك مطبخ قانون الانتخابات الجديد، وكذلك لا أذهب مع المجتهدين الآخرين مذهبهم فى أن سيادته يحب ويفضل أن يأتى برلمان الثورة على هيئة «طبق كشرى» عظيم يختلط فيه عدس «الفلول» بمكرونة الظلاميين.. أظن أن معاليه يقصد من اختراعه هذا أن يقتص وينتقم شر انتقام، ليس من القوى السياسية يمينا ويسارا وإنما من جموع المواطنين الناخبين الذين إذا تهور أى واحد منهم وجرب الإدلاء بصوته فقد يمضى نصف عمره متجولا بين عدد لا يحصى من الأوراق واللجان وصناديق الاقتراع، وقد يتوه ويضيع ولا يعود أبدا إلى أهله وبيته!!